[size=24][center][font=Impact][u][color=green][size=24]شرح آية الكرسي ضمن دروس شرح العقيدة الواسطية للشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر حفطهم الله
شرح آية الكرسي ضمن دروس شرح العقيدة الواسطية للشيخ عبد الرزاق بنعبد المحسن البدر حفطهم الله
مكان الدرس: مسجد الجامعة الإسلامية بالمدينة
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح:
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه العقيدة الواسطية بدأ أولاً : بذكر عقيدة أهل السنة والجماعة في هذا الباب إجمالاً ، وأنهم يثبتون لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه ، وما أثبته له رسوله r من صفات الكمال ، ونعوت العظمة والجلال ، ثم إنه رحمه الله بعد ذلك شرع في التفاصيل، وأخذ يُبَين ما يدخل في هذه الجملة ، في الدرس الماضي أخذنا أنه يدخل فيه ما وصف الله به نفسه تبارك وتعالى في سورة الإخلاص ، التي تعدل ثلث القرآن ، وفي هذا الدرس يقول: "وما وصف الله به نفسه تبارك وتعالى في آية الكرسي التي هي أعظم آية في القرآن" ،فما وصف الله به نفسه في آية الكرسي هو داخل في جملة ما يجب أن يؤمن به العبد ، ويثبته لله سبحانه وتعالى من الأسماء الحسنى والصفات العظيمة ، أن يثبت له جل وعلى ما أثبته لنفسه ، وينفي عن الله تعالى ما نفاه عن نفسه . وصدر شيخ الإسلام حديثه عن آية الكرسي بالإشارة إلى أنها أعظم آية في القرآن ، ودليله على ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث أبي بن كعب أن النبيrقال له( يا أبا المنذر أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟؟ قلت الله ورسوله أعلم)) ، فكررها عليه مراراً ، ((أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟؟))- يكرر عليه ، ((وأبي يقول: الله ورسوله أعلم ))، في المرة الثالثةلما قال عليه الصلاة والسلام( أتدري أي آية في كتاب الله أعظم ؟ ، قال أبي: آية الكرسي)) ، أي :الآية التي ذكر فيها الكرسي ، تسمى آية الكرسي ؛ لأن كرسي الرحمن تبارك وتعالى الذي وسع السماوات والأرض ذُكر في هذه الآية ،((قال أبي :آية الكرسي، فقال النبيr : ليهنك العلم يا أبا المنذر)) أي: هنيئا لك ، هذا العلم الذي ساقه الله إليك ، ومنّ عليك به ووفقك بمعرفته ، وأبيtلما سأله النبي عليه الصلاة والسلام عن هذا السؤال ذهب في بحثه عن أعظم آية في القرآن الكريم هي : الآية التي أخلصت في بيان عظمة الله جل وعلا وكماله سبحانه ، وأنه المستحق للعبادة دون من سواه ، ذهب للبحث عن آية هذا موضوعها ، وهذا مجالها ، وهذا يدلنا على فقه الصحابة ، ويدلنا على عظم شأن التوحيد في قلوبهم حيث لما سأله النبي r عن أعظم آية في القرآن إختار آية التوحيد الآية التي أخلصت لبيان التوحيد ، وأفردت لتقرير التوحيد ؛ ولهذا هذه الآية تعد:
= درساً مختصراً مفيدا ًنافعاً غاية النفع في تقرير التوحيد بأنواعه الثلاثة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات بأجمل ما يكون وألطف ما يكون ، وأبدع ما يكون من البيان ، و التقرير والإيضاح ، فهي جامعة على وجازتها لأمور التوحيد .
= وعلى وجازتها اشتملت على خمس أسماء حسنى ترجع إليها أسماء الله سبحانه وتعالى .
= واشتملت على ما يزيد العشرين صفة لله جل وعلا ، من صفات كماله ، ونعوت جلاله الدالة على عظمته وكماله وكبريائه جل وعلا .
فهي آية عظيمة جداً، هي أعظم آية في كتاب الله سبحانه وتعالى، ولما قال أبي t أنها هي آية الكرسي ، أثنى النبي r عليه في هذا وقال: (( ليهنك العلم )) وهنا قبل المواصلة والإستطراد في الحديث عن هذا الموضوع ، ينبغي أن نقف نحن معاشر طلاب العلم مع هذا الحديث وقفة تربوية في طريقة التعليم التي كان عليه إمام المعلمين وقدوة الموحدين صلوات الله وسلامه عليه ، فكانت طريقة بديعة جداً ، فيها جذب للقلوب ، وتهيئة للنفوس وتحريك للأذهان ، وشحذ للعقول ، وتشجيع أيضاً ، لم يبدأ مع أبيt في هذا التعليم بأن قال له مباشرة: "إن أعظم آية في كتاب الله آية الكرسي ، هذا له وقع ، لكن الطريقة التي بين فيها النبي عليه الصلاة والسلام هذا الأمر ، وقرر ه طريقة بديعة جداً ، يسأل: ((أتدري أي آية في كتاب الله أعظم ؟ قال: الله ورسوله أعلم )) ، يعيدها عليه مرة ثانية ، ((أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟؟)) يعني: تأمل ، وحرك ذهنك ، و تفكر أي آية في كتاب الله أعظم، (( قال أبيt: الله ورسوله أعلم)) ثم يعيدها ويكررها عليه. ((أتدري أي آية في كتاب الله أعظم)) ، وهذا التكرار فيه تحريك للذهن ، وتنشيط لمن أمامك –للسامع- ، ((أتدري أي آية في كتاب الله أعظم ))، فتفكر أبي t ، وكانت نظرته نظرة عميقة ودقيقة جداً ، فأخذ يبحث عن الآيات التي فيها أعظم شيء في القرآن وهو : التوحيد ، ليس هناك أعظم منه ، أعظم ما بين في القرآن هو التوحيد ، فذهب أبيt إلى آية فيها حديث عن التوحيد ، وأخلصت لبيان التوحيد ، وجمعت واشتملت على تقرير التوحيد بأنواع من البيان، وأنواع من الدلائل والبراهين فاتجه ذهنه لذلك ، واستعرض في ذهنه آي القرآن فقال (آية الكرسي ))، وهذا كما أشرت فيه دلالة على فقه الصحابة ، وأيضاً فيه دلالة على عظم عنايتهم بالتوحيد ، واهتمامهم به ، ونظير هذا ما أشرت إليه في سورة الإخلاص في قصة الرجل الذي أمره النبي r على سرية ، فكان يقرأ في كل ركعة بسورة الإخلاص ، فأشكل هذا على من معه ، فلما رجعوا إلى النبي r سألوه فقال عليه الصلاة والسلام: ((سلوه لأي شيءكان يفعل ذلك )) فسألوه فقال (لأن فيها صفة الرحمن وأنا أحب الرحمن )). فأخبروا النبي بذلك rفقال (أخبروه أن حبك إياها أدخلك الجنة)) ، هذا فقه الصحابة وعظيم عنايتهم بالتوحيد .
ولمَّا كان مقام التوحيد المقام العظيم ومكانته المكانة العليا ، كانت آياته أعظم آيات القرآن ، وكانت السورة التي أخلصت لبيانه أفضل سور القرآن ، فهذا يدلنا على عظم شأن التوحيد ، ولاحظ هذا الإستهلال الذي بدأ فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تفصيل تقرير التوحيد بدأ بالسورة التي تعدل ثلث القرآن ، ثم ثنى بالآية التي هي أعظم آية في القرآن ، وكما قدمت آية الكرسي كانت أعظم آية في القرآن ؛ لأنها أخلصت في تقرير التوحيد وإقامة الحجج عليه والبراهين الدالة على عظمة الله وجلاله وكماله و كبريائه ، وأنه تبارك وتعالى المستحق للعبادة دون سواه سبحانه وتعالى ، ولعظم مقام هذه الآية جاء في السنة الندب على الإكثار من قراءتها ، وجعلها ورداً يومياً يحافظ عليه المسلم ، ويتكرر معه هذا الورد في أوقات عديدة ، فجاء قراءة هذه الآية عند النوم، وأشار إلى ذلك ابن تيمية رحمه الله عقب الآية ، "وأن من قرأها لا يزال عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح" ،وجاء الندب في قراءتها في ورد الصباح والمساء، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن من قرأها في الصباح أجير من الشياطين حتى يمسي ، وإذا قرأها في المساء أجير من الشياطين في المساء حتى يصبح ، وهذا يدل على قوة هذه الآية في طرد الشياطين، لها قوة عجيبة ، وأثر بالغ في طرد الشياطين، من يقرأها في الليل حين يأوي إلى فراشه لا يقربه شيطان حتى يصبح ، والشياطين يدركون قوة هذه الآية ؛ ولهذا من يقرأ هذه الآية تبتعد عنه الشياطين ، ولا تقترب، فتقرير النبي r لهذا الأمر قصة عجيبة أوردها الإمام البخاري في الصحيح وخرجها غيره من أهل العلم ، لما وكل النبي rأبو هريرةtبحراسة زكاة رمضان زكاة الفطر فكان يبقى الليل سهران يحرس الزكاة، فكان رجل كبير يأتي ،و يحثوا من الصدقة ، يحثوا :يجمع بكفيه من الصدقة ، وهي: زكاة الفطر تعرفونها من حبوب وثمار فيحثوا من الصدقة- يريد أن يختلس- فأمسك به أبو هريرة t فشكا الحاجة إلى أبو هريرة t وقال : أنا شيخ كبير و أبو عيال- أخذ يشكو أبو هريرةt فرحمه أبو هريرة t وتركه لكن لم يأخذ شيء وذهب الرجل ، لما أصبح قال له النبي عليه الصلاة والسلام : ما فعل أسيرك البارحة -أطلعه الله سبحانه وتعالى- قال : شكا العيال ، وشكا الكبر فرحمته و أطلقته ، قال: كذبك وسيعود ، يقول أبو هريرة t فجلست أرصده؛ لقول النبي r سيعود ؛ لأنه سيحصل كلامه أنه سيأتي ، فجلست أرصد الرجل فإذا به يأتي ويحثو من الصدقة فأمسكت به فقلت له : لا أتركك حتى أذهب بك إلى رسول الله r فقال : شيخ كبير وأبو عيال فرحمه أبو هريرة t وتركه مرة ثانية لما أصبح قال له النبي r : ما فعل أسيرك البارحة قال شكا العيال والكبر فرحمته وتركته قال:كذبك وسيعود ، عاد في المرة الثالثة فمسكه أبو هريرة وقال: لن أتركك حتى أذهب بك إلى رسول الله ، فأيضاً شكا العيال والحاجة والكبر ،وقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بهن- وكان أحرص الناس على الخير - فقال الشيطان له: إذا أويت إلى فراشك فقرأ آية الكرسي حتى خاتمتها -إلى نهاية الآية -فإنك إذا فعلت ذلك لايزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح ، فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، فماذا قال له ، قال : صدقك وهو كذوب، قال:صدقك أقر الأمر ، ولهذا مضى الأمر سنة يقال عند النوم إذا أوى الإنسان إلى فراشه لإقرار النبي r ، والشياطين تدرك هذا الأمر مما تراه وتعاينه من قوة تأثير هذه الآية عليهم من طردهم من المكان ، وإبعادهم من الموقع ، فلها تأثير بالغ ، وشيخ الإسلام ابن تيمية تحدث عن هذه الآية ، وذكر أمورا عجيبة في تأثيرها على الأحوال الشيطانية ، وذكر تجارب عجيبة في هذا الموقف ، مثل ما يكون عند السحرة والدجالين والمشعوذين ومن يطيرون في الهواء ، يقول: إذا قرأت بصدق على من يطير في الهواء يسقط ممن يتعاملون مع الشياطين ، إذا قرأت عليهم بصدق يسقط وهو طائر في الهواء يسقط ؛ لأن الشياطين ما تستطيع أن تصمد أمام قوة تأثير هذه الآية ، ماذا يقول؟؟! يسقط ، وإذا كان فيه سحر أو دجل أو أحوال شيطانية كلها تبطل من قوة تأثير هذه الآية الكريمة ، وقد حدثني شخص ذهب إلى إحدى الدول يقول:
فكنت أمشي فإذا بتجمع كبير ،يقول: فمن باب الفضول قلت : انظر ما هو هذا التجمع -في دولة أعجمية- يقول: فلما وصلت ، ودخلت في الزحام فإذا بهم مجتمعين على ساحر ، يقول: فكان هذا الساحر يقوم بأشياء خارقة لعادة الناس و مألوفهم ، ولا يستطيع أحد أن يمشي ممن وقف وشاهد إلا أن يعطي نقودا ثم يذهب ، إذا حاول أحدهم يمشي من دون أن يدفع نقوداً يسقط ، وهذا كله من السحر، وعمل الشياطين يقول:< فانتظر رجل من عوام الناس يحدث< [1] ففتح الله عليَّ، وأخذت أقرأ آية الكرسي ، والمعوذات ، وسورة الإخلاص ، يقول: فرأيت الأمر الذي فعله بطل ومشيت من المكان ما حصل لي أي شيء . فالشاهد أن لها أثر عجيب ولو قرأنا ما كتب شيخ الإسلام رحمة الله عليه عن أثر هذه الآية الكريمة في إبطال الأحوال الشيطانية ، واعتداء الجن والشياطين وحضورهم للمكان و مضايقتهم للإنسان في بيته وفراشه وغير ذلك فيعتني بهذه الآية يجب قراءتها عند النوم كما في هذا الحديث ، وفي أوراد الصباح والمساء جاء أن من قرأها في الصباح أجير من الشياطين حتى يمسي ، وإذا قرأها في المساء أجير منهم حتى يصبح ، وجاء أيضا الندب وجاء أيضا الندب لقراءتها دبر كل صلاة يقول عليه الصلاة والسلام (( من قرأها دبر كل صلاة لم يكن بينه وبين الجنة إلا أن يموت)) انظر هذا الأثر العظيم المبارك للعناية بهذه الآية التي أعظم آية في القرآن آية التوحيد ، تقرآها دبر كل صلاة ، المؤلف رحمه الله شيخ الإسلام بن تيمية نُقِل عنه أنه قال : "ما تركت قراءتها عُقيب كل صلاة منذ عرفت هذا الحديث".
يعني: منذ عرف هذا الحديث ، وقد يكون عرفه في سن مبكر هذا هو الغالب .يقول :"فما تركتها دبر كل صلاة"، يعني: حافظ عليها محافظة تامة في أدبار الصلوات ، فانظر كم تكرر معك، في الصباح والمساء مرتين ، وعند النوم مرة ، وأدبار الصلوات هذه ثمان مرات يندب لك أن تقرأها يومياً .
ولما تكرر القراءة وتستحضر التوحيد الذي دلت عليه تفيد هنا فائدة عظيمة مهمة كم غفل عنه الناس وهو: أهمية استحضار التوحيد ، واستذكاره ، ومدارسته ، الآن يوجد من الناس من يهون في شأن دراسة التوحيد ، واستذكار التوحيد ، بينما السنة قائمة على هذا الأمر ، والأذكار كلها استذكار للتوحيد بأصوله ودلائله وبراهينه قائمة على ذلك ؛ لأن التوحيد هو سعادة الإنسان ، وصلاحه في الدنيا والآخرة .
فهذا درس مبارك في التوحيد ثمان مرات تستذكره يومياً ، ولهذا لا ينبغي أن تكون القراءة مجرد قراءة دون تدبر ودون تأمل ، إذا كان الله يقول في عموم القرآن ]أفلا يتدبرون القرآن[ فكيف في أعظم آياته -آية الكرسي- ؟؟
وإذا لم يكن هناك تدبر ضعف الأثر ، وضعف الإنتفاع ، ثم ذكر شيخ الإسلام الآية بتمامها آية الكرسي ]اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ[البقرة255
وتأمل هذه الآية العظيمة المباركة ، وما اشتملت عليه من تقرير التوحيد ، وهنا تنبه رعاك الله إلى أن أول ما بدأت به الآية وذُكِر في صدرها التوحيد الذي هو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة ، فأول ما بدأت به الآية هو قوله ]الله لا إله إلا هو الحي القيوم[لا إله إلا هو : أي: لا معبود بحق سواه ، وهذا هو التوحيد الذي خلق الخلق لأجله ، وأوجدوا لتحقيقه ، كما قال في سورة الذاريات ]وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون[ ولأجله أرسل الرسل ]وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ فهذا التوحيد هو الغاية التي خُـلق الخلق لأجلها ، وأوجدوا لتحقيقها .
بدأ بذكر هذه الغاية ]الله لا إله إلا هو[ أي: لا معبود بحق سواه ، فذكرت ألوهيته ، وصدرت به الآية ، وأنه تبارك وتعالى هو المعبود بحق ، و لا معبود بحق سواه، و]لا إله إلاالله[ هذه كلمة التوحيد الذي لأجلها قامت السماوات والأرض ،وخلقت الخليقة ، وأوجد الناس ، وانقسم الناس من أجلها فريقين : فريق كفار ، وفريق مؤمنون . فريق أهل الجنة ، وفريق أهل السعير ، ]الله لا إله إلا هو[أي : لا معبود بحق سواه ، وهي مشتملة على ركنين : نفي وإثبات .
نفي للعبودية عن كل ما سوى الله ، و إثبات للعبودية بكل معانيها لله وحده .
وبهذا نعلم أن التوحيد لا يتحقق ، ولا يتم ، ولا يكون إلا بالركنين معاً ، فمن جاء بأحدها دون الآخر لم يكن موحداً ، فمن جاء بالنفي وحده دون الإثبات يكون ملحداً ، ومن جاء بالإثبات دون النفي يكون مشركاً ، و لا يكون موحدا إلا بالنفي والإثبات معاً ؛ فالتوحيد نفي وإثبات ، لا توحيد إلا بهما نفياً لعبودية عن كل ما سوى الله ، وإثبات العبودية لله تعالى وحده .
وصدرت الآية بهذا ]الله لا إله إلا هو[أي: لا معبود بحق سواه ، ثم أتبع هذا التصديق بذكر براهينه ، ودلائله فما ذكر في تمام الآية توحيد وبرهان للتوحيد ، توحيد علمي ، وبرهان على التوحيد العملي الذي هو إفراد الله بالعبادة ،الذي هو: التذلل والإنكسار والإنقياد له تبارك وتعالى ]الله لا إله إلا هو[أي: لا معبود بحق سواه .
]الحي القيوم[ هذان اسمان]الحي القيوم[وبعض المحققين من أهل العلم يرون هذبن الإسمين هما الإسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ، وبعضهم يرون أن الإسم الأعظم هو الله .
وفي المسئلة أقوال معروفة لكن أقوى ما قيل في هذه المسئلة أن الإسم الأعظم هو الله ، أو أن الإسم الأعظم الحي القيوم ، ومن أسباب عد أهل العلم أو بعض أهل العلم لهذين الإسمين وأنهما الإسم الأعظم ؛ لأن الأسماء الحسنى والصفات العليا ترجع إليهما ، وتجتمع مدلولاتها في هذين الإسمين ]الحي القيوم[ ، الحي: ترجع إليه الصفات الذاتية ، والقيوم: ترجع إليه الصفات الفعلية ، الحي الذي له الحياة الكاملة التي لم يسبقها فناء ، ولا يلحقها عدم ، ولا يعتريها نقص ، حياة تامة كاملة ، وهي حياة تستلزم كمال صفاته سبحانه وتعالى ، حي حياة كاملة والقيوم : إليه ترجع صفات الأفعال ، القيوم هو القائم بنفسه سبحانه وتعالى ، المقيم لخلقه ، وهذا يدلنا على كمال غناه سبحانه وتعالى ، قائم بنفسه في غنى عن خلقه ]يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد[ ، وفي الحديث (( إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني )) فهو قيوم: أي قائم بنفسه غني عن خلقه سبحانه وتعالى ، فالقيوم هو القائم بنفسه ، وهذا فيه دلالة على كمال الغنى وأنه سبحانه غني عن الخلق في كامل الغنى عنهم، غنى ذاتي لا يحتاج إليهم في شيء ، غني عنهم من كل وجه ، وهم فقراء إليه من كل وجه ، محتاجون إليه في كل شيء لا يستغنون عنه طرفة عين ، جميع المخلوقات فقيرة إلى الله ، السماوات والعرش والجبال والأشجار والناس كلها فقيرة إلى الله ]أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم[ قال تعالى ]إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده[ والآيات في هذا المعنى كثيرة ، فالمخلوقات كلها فقيرة إلى الله سبحانه وتعالى، وهو المقيم لها ،وهو القائم على كل نفس ، وهو المتصرف في جميع المخلوقات المدبر للكائنات سبحانه وتعالى ، وعليه فاسمه القيوم : يدل على كمال غناه وكمال القدرة وكمال الغنى ؛ لأنه قائم بنفسه لكمال غناه ، ويدل على كمال القدرة ؛ لأن القيوم أي: المقيم لخلقه فكل المخلوقات قيامها بقدرة الله سبحانه وتعالى ، ولهذا اسم الله القيوم يدل على كمال الغنى وكمال القدرة ، وإذا عرفنا أن اسم الله القيوم دال على كمال قدرته ، فإن جميع صفات الأفعال راجعة إلى هذا الإسم- الخلق والرزق والإحياء والإماتة والتدبير إلى غير ذلك- كلها راجعة إلى هذا الإسم القيوم ؛ لأن من دلالته أنه المقيم لخلقه خلقاً ورزقاً وإحياءاً وإماتة و تدبيراً إلى غير ذلك فكله راجع إلى هذا الإسم ، وبه نعلم أن الصفات الذاتية ترجع إلى اسمه الحي ،وأن الصفات الفعلية راجعة لاسمه القيوم ، ولعظم شأن هذين الاسمين ذُكرا في أول الدلائل دلائل التوحيد في هذه الآية المباركة ]الله لا إله إلا هو[ أي : لا معبود بحق سواه ، ثم ذكرت الدلائل أولها الحي القيوم فمن هذا شأنه حي قيوم يدعى وحده ، ويعبد وحده ، وتصرف له العبادة وحده ، وسيأتي معنا لاحقا قول الله تعالى ]وتوكل على الحي الذي لا يموت[ فالحي الذي لا يموت هو: الذي تصرف له العبادة ، أما الذي ليس بحي أو الحي الذي يموت لا تصرف له العبادة، العبادة لا تصرف إلا للحي الذي لا يموت وهو الله ]فكل شيء هالك إلا وجهه[فالحي الذي لا يموت هو الذي يلتجأ إليه ، أما الميت أو الحي الذي يموت ، أو الجماد الذي لا حياة له أصلاً فكل هؤلاء لا تصرف لهم العبادة، العبادة لا تصرف إلا للحي القيوم للحي الذي لا يموت سبحانه وتعالى ، إذن العلم بها و أنه سبحانه وتعالى الحي القيوم والعناية بفهم هذا الأمر برهان واضح ، ودليل بيِّن على أن الله وحده المستحق للعبادة دون من سواه ، وكل من سواه عبادته باطلة سواءا كان جماداً ليس له حياة أصلاً ، أو حي قد مات ، أوحي يموت ، كل هؤلاء لا يستحق من العبادة شيء لا يستحق العبادة إلا الله الحي الذي لا يموت]كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام[ فوحده الذي تصرف له العبادة ، إذن هذا برهان عظيم جداً من براهين التوحيد ؛ ولهذا صدرت به الآية، ومن سواه هل يستحق أن يعبد ؟؟ لماذا؟
على ضوء هذا البرهان لأنه إما جماداً لا حياة فيه أصلاً ، أو حي قد مات ، أو حي سيموت فإذن لا يستحق العبادة إلا الحي الذي لا يموت الذي له الحياة الكاملة التي لم تسبق بفناء ، ولا يلحقها عدم ، ولا يعتريها نقص وهذه ليست إلا حياة الله سبحانه وتعالى ، أما حياة من سواه فهي حياة مسبوقة بفناء وعدم ]هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا[ ويلحقها الموت ]كل من عليها فان[ ويعتريها النقص والعجز والوهن والمرض و النوم والسنة إلى آخره ، هذه حياة الإنسان ، إذن العبادة حق للحي القيوم ، والإيمان بأنه سبحانه وتعالى حي قيوم برهان عظيم ، ودليل عظيم على أن الله سبحانه وتعالى وحده المستحق للعبادة دون من سواه.]الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم [وهذا أيضا برهان آخر ،وتأكيد أيضاً لقيوميته سبحانه وتعالى ، برهان آخر على أنه سبحانه وتعالى المستحق للعبادة ، فهو حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم .
والسنة: هي بدايات النوم ، الذي هو النعاس الخفيف . والنوم معروف ، الله سبحانه وتعالى لا تأخذه سنة، أي: النعاس الخفيف ، ولا يأخذه النوم ، وهذا من البراهين أن الله سبحانه هو المستحق للعبادة ، وأما الإنسان وغيره من المخلوقات فشأنه آخر حي ، لكنه ينام ويتعب ، والنوم مبني على التعب والإرهاق ، وهو راحة للبدن من العناء والتعب ، ويحتاج الإنسان للنوم للراحة ؛ ليسكن بدنه ؛ ليذهب عنه العناء والتعب ؛ ولهذا تجد نفسك إذا كنت في غاية التعب ونمت تقوم وقد ذهب عنك تعبك ؛ للراحة التي حصَّلتها في النوم ، فأنت تحتاج للنوم ؛ لأنك تتعب وتنصب هذا دليل ضعفك، الله تبارك وتعالى حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ، وهذا يدل على كمال قوته سبحانه وتعالى .
! وهناك قاعدة للعلماء في النفي الذي يأتي في القرآن ألا وهي : أن النفي ليس نفي صرفاً ،بل هو متضمن ثبوت كمال ضد المنفي ، فهنا نفيت عنه السنة والنوم ؛ لكمال حياته ، ولكمال قيوميته ، ولكمال قوته ، ولكمال قدرته كل هذه من المعاني الثبوتية التي تدل عليها نفي السنة والنوم] لا تأخذه سنة ولا نوم [أي : لكمال قيوميته و قوته و قدرته سبحانه وتعالى فهذا من براهين التوحيد ، ووجوب إفراد الله بالعبادة ، وأنه سبحانه وتعالى لا تأخذه سنة ولا نوم ، وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام (( إن الله لا ينام ، و لا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل ، حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) تبارك وتعالى ، لا ينام و لا ينبغي أن ينام ، إذ هو وحده الذي يذبح له ، ويدعى ، ويركع له ، وتصرف له أنواع العبادة دون من سواه سبحانه وتعالى ، أما من سواه فشأنه آخر ، ينام وينعس ويتعب ويسقم إلى غير ذلك ..فكيف يعبد من هذا شأنه ؟!وكيف تصرف له العبادة؟؟ إذن هذا من براهين التوحيد العظيمة ، ودلائله المباركة ، برهان آخر على التوحيد]له ما في السماوات وما في الأرض[وهذا من براهين التوحيد العظيمة ، فكل ما في السماوات والأرض ملكاً لله ، فهو المالك سبحانه وتعالى لما في السموات والأرض ، وما سواه لا يملك في السماوات ولا في الأرض ولا مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، كما قال تعالى]قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ومالهم فيهما من شرك[ لا يملك مثقال ذرة استقلالاً ، ولا يملك مثقال ذرة عن مشاركة، لا استقلالاً ولا مشاركة ، وما يملكه الإنسان في هذه الحياة الدنيا هو ملك بتمليك الله له، كما قال الله سبحانه وتعالى: ]قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء[ وما يملكه الإنسان من ممتلكات آيله إلى أحد أمرين :إما أن يفارقها ، وإما أن تفارقه ، إما أن يفارقها هو ، أو هي تفارقه ، وهو إنما يملكها بتمليك الله سبحانه وتعالى له ، ولهذا قد يكون في المساء مالكاً لخيرات عظيمة ويصبح ما عنده شيء ، كما مر علينا في قصة أصحاب الجنة التي طاف عليها طائف من الله فأصبحت كالصريم ، في المساء يملكون حديقة غناء وفي الصباح ما يملكون شيئاً ، فهذا ملك من تمليك الله سبحانه وتعالى ، أما استقلالاً فلا يملك مخلوق ولا مثقال ذرة، إذن من لا يملك شيئاً ولا مثقال ذرة- وهذه صفة كل المخلوقات- أيستحق من العبادة شيء؟؟ لا والله، لا يستحق العبادة إلا الملك العظيم، وهو الخالق الجليل المالك للسماوات والأرض ، وما فيهما ، وجميع الكائنات هو الذي يستحق أن يعبد ، ولهذا من براهين التوحيد ودلائله العظيمة:
= أن الله سبحانه وتعالى له ما في السماوات وما في الأرض ، فهو المالك لما في السماوات والأرض ، السماوات والأرض وما فيهما كل ذلك ملك لله-سبحانه وتعالى- وهو جل وعلا يتصرف في ملكه كيف شاء، ويقضي فيه بما أراد، الملك ملكه والخلق خلقه، والعبيد عبيده ]وله من في السماوات ومن في الأرض[.
]من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه[ وهذا من بيان كمال ملكه سبحانه وتعالى، الملك كله ملك لله سبحانه ، ولا أحد يشفع عنده سبحانه وتعالى إلا بإذنه ؛ لأنه هو الملك ، من الذي يتصرف بملكه أو يفعل شيئاً بملكه بدون إذنه سبحانه وتعالى ، فإذن هذا من بيان كمال ملكه وكمال تدبيره سبحانه وتعالى وأن الأمر له جل وعلا، قال]من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه[ وقوله ]إلا بإذنه[ فيه إثبات الإذن صفة لله سبحانه وتعالى، والإذن نوعان:
1-إذن شرعي. 2- إذن كوني قدري.
إذن شرعي: أي ما شرعه الله سبحانه وتعالى ، وأمر عباده به]قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون[ أذن لكم: أي شرع لكم ذلك ، أوأذن لكم به شرعاً. ويراد بالإذن أيضا في بعض المواضع: الإذن الكوني القدري.
وقوله ]من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه[ أي: من الذي يملك الشفاعة عند الله، أو يتمكن من الشفاعة عند الله إلا إذا أذن الله له بذلك، فلا أحد يملك الشفاعة، بل هي ملك لله، كما قال الله عز وجل]قل لله الشفاعة جميعا[ ولهذا لا أحد يشفع عند الله إلا إذا أذن الله ]ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له[،]وكم من ملك لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى[. ولهذا جاء في حديث الشفاعة الطويل في ذكر المقام المحمود لنبينا عليه الصلاة والسلام الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون قال( فأذهب وأخر ساجدا تحت العرش ويعلمني الله جل وعلا محامد أحمده بها في ذلك الوقت، ثم يقال لي:- وهذا هو الإذن-(( ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع))الله يقول له ذلك، ولهذا فإن في قوله: ]من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه[) فيه إثبات صفة الكلام لله جل وعلا] من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه[ومن الإذن قول الله لنبيه- عليه الصلاة والسلام- يوم القيامة( ارفع رأسك ، وسل تعط ،واشفع تشفع)) هذا كلام يقوله الله سبحانه وتعالى ، وهو إذن للنبي عليه الصلاة والسلام بالشفاعة ، وإذنه له بالشفاعة فيه تكرمة للنبي عليه الصلاة والسلام، وفيه تكرمة للملائكة ، وتكرمة للأنبياء والصالحين، و تشريف لهم بأن يأذن لهم بالشفاعة، وشفاعتهم ليست نائلةكل أحد، وليست طائلة كل إنسان، ولهذا جاء في الحديث أن أبا هريرة سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (( من أحق الناس بشفاعتك يوم القيامة؟)) وهذا السؤال يدل على فقه ، و أنه ليس كل أحد تطوله هذه الشفاعة، قال : ((من أحق الناس بشفاعتك)) فقال عليه الصلاة والسلام: ((من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه)) وفي الحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام : (( لكل نبي دعوة مستجابة وإني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، وإنها نائلة إن شاء الله –هذا الإذن إن شاء الله- من لا يشرك بالله شيئاً)) فقوله: ((إن شاء الله)) هذا الإذن أن يأذن الله تعالى لعبده بالشفاعة ، والإذن هنا الإذن القدري، الإذن الكوني بأن يمكِّنه ، ويأذن له قدراً أن يشفع، فيشفع عند الله سبحانه وتعالى، مثل ما قال الله في الحديث: (( ارفع رأسك ، وسل تعط ، واشفع تشفع)) فبدأ عليه الصلاة والسلام بالشفاعة.
و الشفاعة : هي طلب الخير للغير ، سميت بذلك ؛ لأن دعاء الشافع انضم إلى دعاء المشفوع له فأصبح الدعاءان شفعاً. قال : ]من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه[ وهذا كما هو برهان للتوحيد أيضاً فيه إبطال عقيدة المشركين، وعقيدة المشركين قائمة على صرف حق الله لغير الله، صرف العبادة لغير الله سبحانه وتعالى ، والزعم بأن من صرفوا لهم العبادة شفعاء عند الله، قال تعالى: ]ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله[ وفي الآية الأخرى ]ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى[ أي :شفعاء ، وسطاء بيننا وبين الله، فالآية مبطلة لعقيدة المشركين ، القائمة على صرف العبادة لغير الله –تبارك وتعالى – بحجة أن هؤلاء وسطاء و شفعاء ، فالله يقول: ]من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه[ وكان المشركون فيمن يرجون منهم الشفاعة ويعبدونهم طلباً للزلفى والقربى لله سبحانه وتعالى كانوا يعتقدون فيهم أنهم يمتلكون عند الله شفاعة ابتدئية، يشفعون لمن شاؤوا متى شاؤوا في أي وقت شاؤوا ، يملكون ذلك، ويقيسون الله-سبحانه وتعالى وتقدس- بملوك الأرض ، وتأتيتهم الشفعاء ، وذووا الجاه إليهم ، فتجد الملوك والرؤساء والزعماء أصحاب المكانة في مجتمعهم لهم شأن عندهم ، فإذا توسطوا في شيء وشفعوا في أمر قد لا يملك أن يرد طلبه لجاهه ومكانته عنده ، فقاسوا الله بخلقه ، وجعلوا شأن الله كما هو شأن الملوك في الأرض ، فالله سبحانه وتعالى أبطل ذلك، قال : ]من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه[ فهذه الآية مبطلة للشفاعة الشركية التي يعتقدها المشركون. ولهذا أخذ العلماء من هذه الآية ونظائرها من آيات القرآن أن الشفاعة الواردة ذكرها في القرآن على نوعين: 1- شفاعة منفية. 2- شفاعة مثبتة.
شفاعة منفية : أي جاء نفيها في القرآن.
و شفاعة مثتة: أي جاء إثباتها في القرآن.
الشفاعة المنفية هي: هذه التي عليها المشركون في اتخاذ الأنداد والشركاء والوسائط، ويزعمون أن هذه الوسائط تقربهم عند الله ، وتشفع لهم عند الله ، وتأخذ بأيديهم إلى الجنة ، وتحول بينهم وبين النار، وهذا الذي عليه المشركون درج عليه الصوفية ولاسيما غلاتهم .
ولهذا أحد شيوخ الصوفية يقول مرة لمريديه: ليس بشيخ الذي يحول بينه وبين طلابه قليل من التراب.
يعني: لا تظن أن شيخك إذا دفن ، وحال بينك وبينه قليل من التراب أنه لا يملك لك شيئاً ، بل استمر مرتبطاً به، كن على ارتباط به حتى لو دفن، فليس بشيخ الذي يحول بينه وبين مريديه قليل من التراب.
ويقول الآخر لمريديه: لا عليكم يوم القيامة أبصق على النار فتصبح حشيش أخضر. فهذا امتداد لشرك المشركين، عروقه عند أولئك، وهذا متفرع عنه ، ولهذا نفس بضاعة المشركين ورثها هؤلاء ، وربما يحاول بعضهم أن يلبسها لباساً شرعياً، لبساً للحق بالباطل ، ومزجا للهدى بالضلال، تعالى الله عما يصفون ، وسبحان الله عما يشركون.
و الشفاعة مثبتة أي : أثبتها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم ، وهي ما تحقق فيها شرطان:
إذن الله للشافع ، ورضاه عن المشفوع له.
]من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه[ هذا إذنه للشافع. رضاه عن المشفوع له ]ولا يشفعون إلا لمن ارتضى[ .
وضم إلى هذين الأمرين أمراً ثالثاً مهماً للغاية، ألا وهو أنه سبحانه وتعالى لا يرضى إلا عن أهل التوحيد. ولهذا هذه فصول ثلاثة مهمة في الشفاعة، فصول مهمة عظيمة في الشفاعة:
الفصل الأول : أنه لا شفاعة إلا بإذن الله.
الفصل الثاني: لا شفاعة إلا لمن رضي الله عمله وقوله.
الفصل الثالث: لا يرضى الله سبحانه وتعالى إلا عن أرض التوحيد.
ولهذا قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (( وإنها نائلة إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئاً)) أما من يشرك فلا تنفعه شفاعة الشافعين، قال :]من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه[ كما قدمت هذا من براهين التوحيد العظيمة، ثم انتقل السياق إلى برهان آخر من براهين التوحيد، قال : ]يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم[ يعني: يعلم ماكان وما سيكون، ما بين أيديهم: كل الأمور التي قبل أحاط بها علمه سبحانه وتعالى ، مابين أيديهم من الأمور الآتية ، وما خلفهم من الأمور الماضية، كل ذلك أحاط به علم الله سبحانه وتعالى- علم ما كان ، وعلم ما سيكون، أحاط علمه سبحانه وتعالى بكل شيء، وهذا فيه تقرير إحاطة علم الله سبحانه وتعالى بكل الكائنات، وأنه سبحانه وتعالى أحاط بكل شيء علماً ، وأحصى كل شيء عدداً ، يعلم ما كان وما سيكون ، ويعلم –سبحانه وتعالى- ما لم يكن لو كان كيف يكون، كما قال تعالى]ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه[ لو ردوا أهل النار إلى الدنيا ،وهو أمر قد قضى الله سبحانه وتعالى ألا يكون، لما يطلبون من الله سبحانه وتعالى أن يعيدهم إلى الدنيا مرة ثانية ؛ ليعملوا صالحاً غير الذي كانوا يعملونه، يكون الجواب بالمنع، ]والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور، وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر[
وفي الآية الأخرى قال: ]اخسئوا فيها ولا تكلمون[ امكثوا فيها ، أي: أبد الآباد ، قضى الله سبحانه وتعالى ألا يخرجون منها ، وألا يعيدهم للحياة الدنيا مرة ثانية ]ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه[ هذا دليل على أنه سبحانه وتعالى يعلم مالم يكن لو كان كيف يكون، فهو –سبحانه وتعالى- أحاط بكل الكائنات علماً ، وأحصى كل شيء عدداً ، وسع علمه كل شيء ، هذا من براهين التوحيد. من براهين التوحيد ودلائله العظيمة إيمان العبد بأن الله أحاط بكل شيء علماً ، ولهذا قال الله عز وجل في الآية الأخرى: ]ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير[ أي : أن خلقه لهذه الكائنات ، وإيجاده لها من العدم دليل على إحاطة علمه بها، وأنه أحاط بكل شيء علماً ، هذا من براهين التوحيد. !أذكر هنا قصة مفيدة ذكرها التيمي في كتابه الحجة (كتاب الحجة ) وهو كتاب عظيم جداً ، وسفر مبارك ، فيه رقائق وفوائد ونفائس قد لا تجدها في غيره ، وقفت فيه على قصة لم أر أحداً ذكرها غيره ، قصة أحد الزنادقة جاء يوماً أمام بعض الطلاب وأراد أن يلبس عليهم ، قال لهم أنني أستطيع أن أخلق كائنات حية ، ليس الذي تفرد بخلق الكائنات الحية الله وحده، أنا أستطيع أن أخلق، فجاء لهم بزجاجة، وضع فيها أشياء متعفنة ، مثل : لحم وخضروات ، و وضعها في زجاجة ، وأغلق عليها ووضعها في مكان ، بعد أيام لما رجعوا إليها وجدوها ممتلئة دود، والدود يخرج منها ، ويتساقط وامتلئت به ، فقال : انظروا ، هذه مخلوقات لي ، أنا الذي خلقها، أوجدتها من العدم، كيف تقولون أنه لا يخلق إلا الله ؟ وكان في المجلس شاب صغير، هو أصغر من في المجلس ، قال كلمة عجيبة مستفادة من قوله ]ألا يعلم من خلق[ قال : لم يكن أحد يخلق إلا ويعلم عدد ما خلق ، ذكورهم من إناثهم ، وأرزاقهم وآجالهم، فأَبِن لنا ذلك كله، فالآن أنت الخالق لهذه الأشياء ؟؟؟؟ كم عدد مخلوقاتك؟ كم من الذكور من الإناث؟ ما هي الأرزاق التي كل مخلوق من هذه المخلوقات سيقتاته مدة حياته؟ وما هي الآجال؟ كل واحد من هذه الكائنات متى سيموت؟ فبهت الذي كفر. أذكر أنني سافرت إلى أحد الجمهوريات الإسلامية، التقيت ببعض الطلبة، وبمناسبة درس من الدروس ذكرت هذه القصة، فجائني أحدهم مندهشاً قال: سبحان الله! كيف غفلنا على هذه الحجة؟! يقول كان الشيوعيون يقولون هذا الكلام، ففي الفصول الدراسية يأتي الأستاذ في المراحل الإبتدائية بزجاج ويضع كذا ويفعل كذا، فيرتبك ا لطلاب، ويحصل لهم تشويش عظيم، يقول: وأنا ممن فعل أمامي هذا الأمر يقول :و ما انتبهت لهذا الجواب، وأخذ يفخم هذا الجواب ويعظم من شأنه ، لأنه يعيش قصة مرت به ومرت بإخوانه المسلمين في تلك المناطق.
قال: ]يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم[ هذا فيه إحاطة علمه –سبحانه تعالى- بكل شيء ثم أمر آخر ]ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء[ هذا فيه ذكر عجز المخلوقات، وقصور علمها ،وأنهم لم يؤتوا من العلم إلا القليل، وما عندهم من العلم إنما نالوه بتعليم الله لهم، ولهذا يقول الله]لا علم لنا إلا ما علمتنا[ وفي الدعاء: (( اللهم علمني ما ينفعني)) ((اللهم إني أسألك علما نافعاً)) ]الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم[ فلا ينال الإنسان أي حظ من العلم إلا إذا وفقه الله سبحانه وتعالى ويسره له]ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء[ أي: ينالون شيئاً من العلوم إلا أشياء قليلة بإذنه ومشيئته سبحانه ، وهذا فيه إثبات المشيئة لله سبحانه وتعالى- صفة من صفاته العظيمة، وأن الأمور كلها بمشيئة الله ، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وفيه أيضاً ضعف المخلوق وقصوره وضعفه وعجزه وقلة معلوماته ، وأنه لم يؤت من العلم إلا القليل، وأن ما عنده من العلم إنما هو بتعليم الله –سبحانه وتعالى-له، وما عنده من العلم مسبوق بجهل]والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً[ وآيل إلى الانتهاء ]ثم يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً[ وأيضاً يعتريه النسيان]ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي[ نسي آدم ونسيت ذريته ، هذا علم الإنسان ، علم مسبوق بجهل، وآيل إلى الانتهاء ، ويلحقه النقص والنسيان ، وهو مع ذلك كله علم قليل ]وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً[ هذا في ضعف الإنسان وفقره واحتياجه إلى الله سبحانه وتعالى ، وإذا بان ذلك فإن فيه برهان على التوحيد، وإنما المستحق للعبادة إنما هو الله ، الذي أحاط بكل شيء علما ، وأحصى كل شيء عدداً ، وهذا هو الذي سيق هذا الأمر لبيانه وتقريره]يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء[.
ثم ذكر برهانا آخر قال ]وسع كرسيه السموات والأرض[ وهذا ذُكر لبيان عظمة الله –سبحانه وتعالى- وأنه –جل وعلا- العظيم الكبير المتعالي ، وبيان عظمته ببيان عظمة وسعة مخلوق من مخلوقاته ، وهو: الكرسي.
والكرسي هو: مخلوق من المخلوقات أصغر من العرش وسع السماوات والأرض ، والنسبة بين السماوات والأرض و الكرسي كالنسبة بين الكرسي والعرش وفي الحديث : ( (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة أُلقيت في فلاة)) والذي بين السماوات والأرض وبين الكرسي مثل ذلك ، وكما جاء في الحديث عن النبي r حلقة من حديد مرميّة في صحراء ، ماذا تساوي هذه الحلقة من الصحراء عند المقارنة ؟ فالكرسي نسبته إلى العرش كنسبة الحديد إلى الفلاة التي هي الصحراء ، السماوات والأرض نسبتها الكرسي مثل ذلك ، فإذا تفكرت الأرض التي تمشي عليها أنت ، ماذا تكون نسبتها بالنسبة إلى الأرض كلها؟ بالنسبة للأراضين كلها ؟ بالنسبة للسموات ؟ بالنسبة للكرسي الذي وسع السماوات ؟ بالنسبة للعرش العظيم الذي استوى عليه الرب جل وعلا ]الرحمن على العرش استوى[ ؟ ولهذا هذا التفكر يهديك لمعرفة عظمة الخالق ، وأنه سبحانه وتعالى الكبير المتعال العليّ العظيم ، ولهذا قال بعض أهل العلم :"ذكر الكرسي هنا في هذا المقام جاء كالتوطئة والتمهيد لبيان علوّه وعظمته ، الذي خُتمت به الآية" ، ختُمت الآية بقوله : ]وهو العلي العظيم[ فتمهيداً لتقرير ذلك ذكر الكرسي . تفكّر في الكرسي ، الكرسي يدلك على عظمة الخالق ، وأنه سبحانه وتعالى عليٌّ عظيم كبير متعالٍ . فالكرسي وهو مخلوق من مخلوقات الله سبحانه وتعالى ، وسع السماوات والأرض ،وهو مخلوق من مخلوقات الله ، والكرسي ليس هو العرش ، ومن قال ذلك أخطأ ، والنصوص دالة على خطأ هذا القول ، ليس هو العرش ، بل هو مخلوق آخر وسع السماوات والأرض ، والعرش أعظم منه . ولهذا جاء عن ابن عباس في تفسير الآية بإسناد صحيح : ( وسع السماوات والأرض قال : الكرسي : موضع القدمين ، والعرش لا يقدر قدره إلا الله )). العرش مخلوق آخر أعظم وأكبر لا يقدر قدره إلا الله ولهذا وصف العرش بأنه مجيد ، ]ذو العرش المجيد[ في قراءة الكسر ، صفة للعرش ، والمجد : هو السعة ، وُصف بالمجيد لسعته ، ووُصف بأنه عظيم لعظمته ، فالعرش أعظم من الكرسي ، قال ابن عباس –رضي الله عنهما – وجاء أيضا عن غيره من الصحابة هذا المعنى : " الكرسي موضع القدمين ، والعرش لا يقدر قدره إلا الله ""، لا يقدر قدره : أي لا يعرف عظمته إلا الله سبحانه وتعالى .
فالقول بأن الكرسي هو العرش هذا قول خاطيء مجانبٌ للصواب ، مخالف للأدلة ، والأدلة دلت على أن العرش غير الكرسي ، مثل ما جاء عن ابن عباس ، ومثل ما جاء عن النبي r من حديث أبي ذر : " ما الكرسي في العرش إلا كحلقة أُلقيت في فلاة " ، فهذا مخلوق ، وهذا مخلوق ، والكرسي كحلقة أٌلقيت في فلاة ، وأيضاً ليس الكرسي العلم ، قد نسبه بعضهم إلى ابن عباس–رضي الله عنهما – أنه قال : " كرسيه علمه " وهذا لا يصح عن ابن عباس t وإنما المحفوظ عنه أن كرسيه هو موضع القدمين ، وهذا كما قال أهل العلم له حكم الرفع، لأنه عقيدة ، ولا مجال فيه للرأي ، فحكمه حكم المرفوع إلى النبي r.
]وسع كرسيه السماوات والأرض[ هذا فيه عظمة الكرسي . وفي معرفة عظمة الكرسي والتفكر في عظمته ، دلالة على عظمة من خلق الكرسي وأوجده من العدم –تبارك وتعالى- والكرسي هذا المخلوق العظيم الذي وسع السماوات والأرض لا يساوي شيئاً بالنسبة للعرش الذي استوى عليه الرحمن –سبحانه وتعالى -، ونسبته إليه كحلقة أًُلقيت في فلاة كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
-قال : ]وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما[ وهذا أيضاً فيه بيان عظمة الله ، وكمال قدرته وقوته –سبحانه وتعالى - ، قد عرفنا أن النفي في القرآن لا يكون نفياً صرفاً ، وإنما هو نفي متضمن ثبوت كمال ضد المنفي ، فمعنى قوله :]لا يؤوده [ أي: لا يثقله ، ولا يتعبه و لا يكلفه ، ]حفظهما[ : أي السماوات والأرض . وهذا فيه دلالة وإثبات على أن الله سبحانه وتعالى الحفيظ وهو الحافظ ، وأنه يحفظ السماوات ويحفظ الأرض ، ولا يثقله ذلك ، وهذا أيضا فيه كمال قدرته ، كمال قوته ، وأيضا فيه كمال غناه ، وافتقار المخلوقات إليه ، السماوات والأرض والكرسي والعرش كل الكائنات فقيرة إليه ، محتاجة إليه ، فهو الممسك لها بقدرته ، والحافظ لها –سبحانه وتعالى –بإذنه ومشيئته –جل وعلا – وهي فقيرة إليه من كل وجه، وهذا يدلنا على فساد عقول المعطلة ، فساداً عجيبا ً ، عندما يقولون في تقرير إنكار استواء الله على العرش، يقولون :وهذا موجود في كثير من كتبهم يقولون : " لو كان الله مستوِ على العرش حقيقة للزم من ذلك أن يكون محتاجاً إلى العرش "، هذا يدل على فساد عقول هؤلاء ، وأن نظرهم لذات الله سبحانه وتعالى مبني على قياس فاسد لله بخلقه ، لأنهم رأوا أن المخلوقات لا تستوي على شيء إلا عن حاجة ، ]خلق لكم من الفلك والأنعام ما تركبون – لتستوا على ظهوره[ ، الإنسان إذا استوى على الفلك ماذا يحدث له ؟ يغرق بغرقه ، وإذا ركب على الدابة يسقط بسقوطها ؛ لأنه مفتقر إليها ، فهؤلاء قاسوا الله بخلقه –تعالى الله عما يصفون – وبناء على هذا القياس الفاسد عطّلوا استواءه ونفوه ، قالوا: يلزم من استواءه على العرش حقيقة أن يكون محتاجاً إلى العرش ، من أين جاؤوا بهذا اللازم ؟ من قياس الله بخلقه ، ولهذا قال أئمة السلف قديماً ، الإمام أحمد وأبو يوسف و غيرهما : " لا يقاس بخلقه " ، وقياس الله بخلقه هو أساس الفساد الذي وقع فيه المعطلة ونُفاة الصفات ، فالله عز وجل الحافظ للعرش، الحافظ للكرسي، الحافظ للسماوات، الحافظ للأرض، الحافظ لكل المخلوقات، وصدرت الآية ]القيوم[ القائم بنفسه المقيم لخلقه بياناً لكمال قدرته وكمال قوته وكمال غناه سبحانه وتعالى ، وفي القرآن يقول- سبحانه وتعالى]إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا[ السموات والأرض والعرش والكرسي وكل المخلوقات قائمة بإقامة الله لها ، وهو سبحانه الممسك لها ، ولهذا نقول : إن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه حقيقة استواءً يليق بجلاله وكماله ، استناداً للآيات الكثيرة ، والأحاديث العديدة في هذا الباب ، ، وفي الوقت نفسه نقول : إن الله عز وجل غنيٌ عن العرش ، وغني عن الكرسي ، وغني عن المخلوقات ، والاستواء الذي هو عن حاجة هو استواء المخلوق ، أما استواؤه سبحانه وتعالى فهو استواء عن غنى ، فهو ممسك للعرش بقدرته سبحانه وتعالى ، والممسك للكرسي وللسماوات وللأرض القائم على كل المخلوقات.
قال : ]ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم[ ختمت الآية بذكر هذين الاسمين ، و بهما يكمل ذكر خمسة أسماء في السورة : الله ، الحي ، القيوم ، العلي ، العظيم ، خمسة أسماء حسنى لله سبحانه وتعالى .
والقاعدة عند أهل العلم في باب الأسماء : أن كل اسم دالٌ على ثبوت صفة كمال ، فليست أسماؤه جامدة ، فاسم الله دال على الألوهية ، الحي الحياة ، القيوم القيومية ، العليّ العلو ، العظيم العظمة ، فهذه أسماء خمسة ذكرت في هذه الآية وكلها دالة على ثبوت صفات كمال ونعوت جلال لله سبحانه وتعالى ،ولهذا قال أهل العلم: (أن هذه السورة اشتملت على خمسة أسماء حسنى ، ومايزيد على العشرين صفة) ولهذا من المناسب لك كنوع من المذاكرة لهذه الآية العظيمة، والمدارسة لها والتفقه فيها أن تطالع أكثر من كتاب من كتب التفسير للسلف –رحمهم الله- وتجمع الصفات التي دلت عليها هذه الآية ، وهذا بحث مقترح عليكم جميعاً في مدارسة هذه الآية، الصفات التي دلت عليها آية الكرسي، والدلالات ثلاثة، دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام، وإذا أخذت تتفقه في دلالة الالتزام فالصفات التي دلت عليها آية الكرسي لا حصر لها، لكن إذا كان نظرك في دلالة المطابقة ،ودلالة التضمن فالصفات التي فيها تزيد على العشرين، أما إذا نظرت إلى دلالة الالتزام، فمثلاً : الحي ، بدلالة الالتزام يدل على القدرة يدل على البصر ، يدل على السمع، يدل على صفات كثيرة لله-سبحانه وتعالى- بدلالة الالتزام، لأن دلالة الالتزام هي دلالة اللفظ على أمر خارجي معناه.
أما دلالة المطابقة: دلالة اللفظ على
شرح آية الكرسي ضمن دروس شرح العقيدة الواسطية للشيخ عبد الرزاق بنعبد المحسن البدر حفطهم الله
مكان الدرس: مسجد الجامعة الإسلامية بالمدينة
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرح:
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه العقيدة الواسطية بدأ أولاً : بذكر عقيدة أهل السنة والجماعة في هذا الباب إجمالاً ، وأنهم يثبتون لله تبارك وتعالى ما أثبته لنفسه ، وما أثبته له رسوله r من صفات الكمال ، ونعوت العظمة والجلال ، ثم إنه رحمه الله بعد ذلك شرع في التفاصيل، وأخذ يُبَين ما يدخل في هذه الجملة ، في الدرس الماضي أخذنا أنه يدخل فيه ما وصف الله به نفسه تبارك وتعالى في سورة الإخلاص ، التي تعدل ثلث القرآن ، وفي هذا الدرس يقول: "وما وصف الله به نفسه تبارك وتعالى في آية الكرسي التي هي أعظم آية في القرآن" ،فما وصف الله به نفسه في آية الكرسي هو داخل في جملة ما يجب أن يؤمن به العبد ، ويثبته لله سبحانه وتعالى من الأسماء الحسنى والصفات العظيمة ، أن يثبت له جل وعلى ما أثبته لنفسه ، وينفي عن الله تعالى ما نفاه عن نفسه . وصدر شيخ الإسلام حديثه عن آية الكرسي بالإشارة إلى أنها أعظم آية في القرآن ، ودليله على ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث أبي بن كعب أن النبيrقال له( يا أبا المنذر أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟؟ قلت الله ورسوله أعلم)) ، فكررها عليه مراراً ، ((أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟؟))- يكرر عليه ، ((وأبي يقول: الله ورسوله أعلم ))، في المرة الثالثةلما قال عليه الصلاة والسلام( أتدري أي آية في كتاب الله أعظم ؟ ، قال أبي: آية الكرسي)) ، أي :الآية التي ذكر فيها الكرسي ، تسمى آية الكرسي ؛ لأن كرسي الرحمن تبارك وتعالى الذي وسع السماوات والأرض ذُكر في هذه الآية ،((قال أبي :آية الكرسي، فقال النبيr : ليهنك العلم يا أبا المنذر)) أي: هنيئا لك ، هذا العلم الذي ساقه الله إليك ، ومنّ عليك به ووفقك بمعرفته ، وأبيtلما سأله النبي عليه الصلاة والسلام عن هذا السؤال ذهب في بحثه عن أعظم آية في القرآن الكريم هي : الآية التي أخلصت في بيان عظمة الله جل وعلا وكماله سبحانه ، وأنه المستحق للعبادة دون من سواه ، ذهب للبحث عن آية هذا موضوعها ، وهذا مجالها ، وهذا يدلنا على فقه الصحابة ، ويدلنا على عظم شأن التوحيد في قلوبهم حيث لما سأله النبي r عن أعظم آية في القرآن إختار آية التوحيد الآية التي أخلصت لبيان التوحيد ، وأفردت لتقرير التوحيد ؛ ولهذا هذه الآية تعد:
= درساً مختصراً مفيدا ًنافعاً غاية النفع في تقرير التوحيد بأنواعه الثلاثة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات بأجمل ما يكون وألطف ما يكون ، وأبدع ما يكون من البيان ، و التقرير والإيضاح ، فهي جامعة على وجازتها لأمور التوحيد .
= وعلى وجازتها اشتملت على خمس أسماء حسنى ترجع إليها أسماء الله سبحانه وتعالى .
= واشتملت على ما يزيد العشرين صفة لله جل وعلا ، من صفات كماله ، ونعوت جلاله الدالة على عظمته وكماله وكبريائه جل وعلا .
فهي آية عظيمة جداً، هي أعظم آية في كتاب الله سبحانه وتعالى، ولما قال أبي t أنها هي آية الكرسي ، أثنى النبي r عليه في هذا وقال: (( ليهنك العلم )) وهنا قبل المواصلة والإستطراد في الحديث عن هذا الموضوع ، ينبغي أن نقف نحن معاشر طلاب العلم مع هذا الحديث وقفة تربوية في طريقة التعليم التي كان عليه إمام المعلمين وقدوة الموحدين صلوات الله وسلامه عليه ، فكانت طريقة بديعة جداً ، فيها جذب للقلوب ، وتهيئة للنفوس وتحريك للأذهان ، وشحذ للعقول ، وتشجيع أيضاً ، لم يبدأ مع أبيt في هذا التعليم بأن قال له مباشرة: "إن أعظم آية في كتاب الله آية الكرسي ، هذا له وقع ، لكن الطريقة التي بين فيها النبي عليه الصلاة والسلام هذا الأمر ، وقرر ه طريقة بديعة جداً ، يسأل: ((أتدري أي آية في كتاب الله أعظم ؟ قال: الله ورسوله أعلم )) ، يعيدها عليه مرة ثانية ، ((أتدري أي آية في كتاب الله أعظم؟؟)) يعني: تأمل ، وحرك ذهنك ، و تفكر أي آية في كتاب الله أعظم، (( قال أبيt: الله ورسوله أعلم)) ثم يعيدها ويكررها عليه. ((أتدري أي آية في كتاب الله أعظم)) ، وهذا التكرار فيه تحريك للذهن ، وتنشيط لمن أمامك –للسامع- ، ((أتدري أي آية في كتاب الله أعظم ))، فتفكر أبي t ، وكانت نظرته نظرة عميقة ودقيقة جداً ، فأخذ يبحث عن الآيات التي فيها أعظم شيء في القرآن وهو : التوحيد ، ليس هناك أعظم منه ، أعظم ما بين في القرآن هو التوحيد ، فذهب أبيt إلى آية فيها حديث عن التوحيد ، وأخلصت لبيان التوحيد ، وجمعت واشتملت على تقرير التوحيد بأنواع من البيان، وأنواع من الدلائل والبراهين فاتجه ذهنه لذلك ، واستعرض في ذهنه آي القرآن فقال (آية الكرسي ))، وهذا كما أشرت فيه دلالة على فقه الصحابة ، وأيضاً فيه دلالة على عظم عنايتهم بالتوحيد ، واهتمامهم به ، ونظير هذا ما أشرت إليه في سورة الإخلاص في قصة الرجل الذي أمره النبي r على سرية ، فكان يقرأ في كل ركعة بسورة الإخلاص ، فأشكل هذا على من معه ، فلما رجعوا إلى النبي r سألوه فقال عليه الصلاة والسلام: ((سلوه لأي شيءكان يفعل ذلك )) فسألوه فقال (لأن فيها صفة الرحمن وأنا أحب الرحمن )). فأخبروا النبي بذلك rفقال (أخبروه أن حبك إياها أدخلك الجنة)) ، هذا فقه الصحابة وعظيم عنايتهم بالتوحيد .
ولمَّا كان مقام التوحيد المقام العظيم ومكانته المكانة العليا ، كانت آياته أعظم آيات القرآن ، وكانت السورة التي أخلصت لبيانه أفضل سور القرآن ، فهذا يدلنا على عظم شأن التوحيد ، ولاحظ هذا الإستهلال الذي بدأ فيها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تفصيل تقرير التوحيد بدأ بالسورة التي تعدل ثلث القرآن ، ثم ثنى بالآية التي هي أعظم آية في القرآن ، وكما قدمت آية الكرسي كانت أعظم آية في القرآن ؛ لأنها أخلصت في تقرير التوحيد وإقامة الحجج عليه والبراهين الدالة على عظمة الله وجلاله وكماله و كبريائه ، وأنه تبارك وتعالى المستحق للعبادة دون سواه سبحانه وتعالى ، ولعظم مقام هذه الآية جاء في السنة الندب على الإكثار من قراءتها ، وجعلها ورداً يومياً يحافظ عليه المسلم ، ويتكرر معه هذا الورد في أوقات عديدة ، فجاء قراءة هذه الآية عند النوم، وأشار إلى ذلك ابن تيمية رحمه الله عقب الآية ، "وأن من قرأها لا يزال عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح" ،وجاء الندب في قراءتها في ورد الصباح والمساء، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن من قرأها في الصباح أجير من الشياطين حتى يمسي ، وإذا قرأها في المساء أجير من الشياطين في المساء حتى يصبح ، وهذا يدل على قوة هذه الآية في طرد الشياطين، لها قوة عجيبة ، وأثر بالغ في طرد الشياطين، من يقرأها في الليل حين يأوي إلى فراشه لا يقربه شيطان حتى يصبح ، والشياطين يدركون قوة هذه الآية ؛ ولهذا من يقرأ هذه الآية تبتعد عنه الشياطين ، ولا تقترب، فتقرير النبي r لهذا الأمر قصة عجيبة أوردها الإمام البخاري في الصحيح وخرجها غيره من أهل العلم ، لما وكل النبي rأبو هريرةtبحراسة زكاة رمضان زكاة الفطر فكان يبقى الليل سهران يحرس الزكاة، فكان رجل كبير يأتي ،و يحثوا من الصدقة ، يحثوا :يجمع بكفيه من الصدقة ، وهي: زكاة الفطر تعرفونها من حبوب وثمار فيحثوا من الصدقة- يريد أن يختلس- فأمسك به أبو هريرة t فشكا الحاجة إلى أبو هريرة t وقال : أنا شيخ كبير و أبو عيال- أخذ يشكو أبو هريرةt فرحمه أبو هريرة t وتركه لكن لم يأخذ شيء وذهب الرجل ، لما أصبح قال له النبي عليه الصلاة والسلام : ما فعل أسيرك البارحة -أطلعه الله سبحانه وتعالى- قال : شكا العيال ، وشكا الكبر فرحمته و أطلقته ، قال: كذبك وسيعود ، يقول أبو هريرة t فجلست أرصده؛ لقول النبي r سيعود ؛ لأنه سيحصل كلامه أنه سيأتي ، فجلست أرصد الرجل فإذا به يأتي ويحثو من الصدقة فأمسكت به فقلت له : لا أتركك حتى أذهب بك إلى رسول الله r فقال : شيخ كبير وأبو عيال فرحمه أبو هريرة t وتركه مرة ثانية لما أصبح قال له النبي r : ما فعل أسيرك البارحة قال شكا العيال والكبر فرحمته وتركته قال:كذبك وسيعود ، عاد في المرة الثالثة فمسكه أبو هريرة وقال: لن أتركك حتى أذهب بك إلى رسول الله ، فأيضاً شكا العيال والحاجة والكبر ،وقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بهن- وكان أحرص الناس على الخير - فقال الشيطان له: إذا أويت إلى فراشك فقرأ آية الكرسي حتى خاتمتها -إلى نهاية الآية -فإنك إذا فعلت ذلك لايزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح ، فذهب إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، فماذا قال له ، قال : صدقك وهو كذوب، قال:صدقك أقر الأمر ، ولهذا مضى الأمر سنة يقال عند النوم إذا أوى الإنسان إلى فراشه لإقرار النبي r ، والشياطين تدرك هذا الأمر مما تراه وتعاينه من قوة تأثير هذه الآية عليهم من طردهم من المكان ، وإبعادهم من الموقع ، فلها تأثير بالغ ، وشيخ الإسلام ابن تيمية تحدث عن هذه الآية ، وذكر أمورا عجيبة في تأثيرها على الأحوال الشيطانية ، وذكر تجارب عجيبة في هذا الموقف ، مثل ما يكون عند السحرة والدجالين والمشعوذين ومن يطيرون في الهواء ، يقول: إذا قرأت بصدق على من يطير في الهواء يسقط ممن يتعاملون مع الشياطين ، إذا قرأت عليهم بصدق يسقط وهو طائر في الهواء يسقط ؛ لأن الشياطين ما تستطيع أن تصمد أمام قوة تأثير هذه الآية ، ماذا يقول؟؟! يسقط ، وإذا كان فيه سحر أو دجل أو أحوال شيطانية كلها تبطل من قوة تأثير هذه الآية الكريمة ، وقد حدثني شخص ذهب إلى إحدى الدول يقول:
فكنت أمشي فإذا بتجمع كبير ،يقول: فمن باب الفضول قلت : انظر ما هو هذا التجمع -في دولة أعجمية- يقول: فلما وصلت ، ودخلت في الزحام فإذا بهم مجتمعين على ساحر ، يقول: فكان هذا الساحر يقوم بأشياء خارقة لعادة الناس و مألوفهم ، ولا يستطيع أحد أن يمشي ممن وقف وشاهد إلا أن يعطي نقودا ثم يذهب ، إذا حاول أحدهم يمشي من دون أن يدفع نقوداً يسقط ، وهذا كله من السحر، وعمل الشياطين يقول:< فانتظر رجل من عوام الناس يحدث< [1] ففتح الله عليَّ، وأخذت أقرأ آية الكرسي ، والمعوذات ، وسورة الإخلاص ، يقول: فرأيت الأمر الذي فعله بطل ومشيت من المكان ما حصل لي أي شيء . فالشاهد أن لها أثر عجيب ولو قرأنا ما كتب شيخ الإسلام رحمة الله عليه عن أثر هذه الآية الكريمة في إبطال الأحوال الشيطانية ، واعتداء الجن والشياطين وحضورهم للمكان و مضايقتهم للإنسان في بيته وفراشه وغير ذلك فيعتني بهذه الآية يجب قراءتها عند النوم كما في هذا الحديث ، وفي أوراد الصباح والمساء جاء أن من قرأها في الصباح أجير من الشياطين حتى يمسي ، وإذا قرأها في المساء أجير منهم حتى يصبح ، وجاء أيضا الندب وجاء أيضا الندب لقراءتها دبر كل صلاة يقول عليه الصلاة والسلام (( من قرأها دبر كل صلاة لم يكن بينه وبين الجنة إلا أن يموت)) انظر هذا الأثر العظيم المبارك للعناية بهذه الآية التي أعظم آية في القرآن آية التوحيد ، تقرآها دبر كل صلاة ، المؤلف رحمه الله شيخ الإسلام بن تيمية نُقِل عنه أنه قال : "ما تركت قراءتها عُقيب كل صلاة منذ عرفت هذا الحديث".
يعني: منذ عرف هذا الحديث ، وقد يكون عرفه في سن مبكر هذا هو الغالب .يقول :"فما تركتها دبر كل صلاة"، يعني: حافظ عليها محافظة تامة في أدبار الصلوات ، فانظر كم تكرر معك، في الصباح والمساء مرتين ، وعند النوم مرة ، وأدبار الصلوات هذه ثمان مرات يندب لك أن تقرأها يومياً .
ولما تكرر القراءة وتستحضر التوحيد الذي دلت عليه تفيد هنا فائدة عظيمة مهمة كم غفل عنه الناس وهو: أهمية استحضار التوحيد ، واستذكاره ، ومدارسته ، الآن يوجد من الناس من يهون في شأن دراسة التوحيد ، واستذكار التوحيد ، بينما السنة قائمة على هذا الأمر ، والأذكار كلها استذكار للتوحيد بأصوله ودلائله وبراهينه قائمة على ذلك ؛ لأن التوحيد هو سعادة الإنسان ، وصلاحه في الدنيا والآخرة .
فهذا درس مبارك في التوحيد ثمان مرات تستذكره يومياً ، ولهذا لا ينبغي أن تكون القراءة مجرد قراءة دون تدبر ودون تأمل ، إذا كان الله يقول في عموم القرآن ]أفلا يتدبرون القرآن[ فكيف في أعظم آياته -آية الكرسي- ؟؟
وإذا لم يكن هناك تدبر ضعف الأثر ، وضعف الإنتفاع ، ثم ذكر شيخ الإسلام الآية بتمامها آية الكرسي ]اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ[البقرة255
وتأمل هذه الآية العظيمة المباركة ، وما اشتملت عليه من تقرير التوحيد ، وهنا تنبه رعاك الله إلى أن أول ما بدأت به الآية وذُكِر في صدرها التوحيد الذي هو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة ، فأول ما بدأت به الآية هو قوله ]الله لا إله إلا هو الحي القيوم[لا إله إلا هو : أي: لا معبود بحق سواه ، وهذا هو التوحيد الذي خلق الخلق لأجله ، وأوجدوا لتحقيقه ، كما قال في سورة الذاريات ]وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون[ ولأجله أرسل الرسل ]وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون ) (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ فهذا التوحيد هو الغاية التي خُـلق الخلق لأجلها ، وأوجدوا لتحقيقها .
بدأ بذكر هذه الغاية ]الله لا إله إلا هو[ أي: لا معبود بحق سواه ، فذكرت ألوهيته ، وصدرت به الآية ، وأنه تبارك وتعالى هو المعبود بحق ، و لا معبود بحق سواه، و]لا إله إلاالله[ هذه كلمة التوحيد الذي لأجلها قامت السماوات والأرض ،وخلقت الخليقة ، وأوجد الناس ، وانقسم الناس من أجلها فريقين : فريق كفار ، وفريق مؤمنون . فريق أهل الجنة ، وفريق أهل السعير ، ]الله لا إله إلا هو[أي : لا معبود بحق سواه ، وهي مشتملة على ركنين : نفي وإثبات .
نفي للعبودية عن كل ما سوى الله ، و إثبات للعبودية بكل معانيها لله وحده .
وبهذا نعلم أن التوحيد لا يتحقق ، ولا يتم ، ولا يكون إلا بالركنين معاً ، فمن جاء بأحدها دون الآخر لم يكن موحداً ، فمن جاء بالنفي وحده دون الإثبات يكون ملحداً ، ومن جاء بالإثبات دون النفي يكون مشركاً ، و لا يكون موحدا إلا بالنفي والإثبات معاً ؛ فالتوحيد نفي وإثبات ، لا توحيد إلا بهما نفياً لعبودية عن كل ما سوى الله ، وإثبات العبودية لله تعالى وحده .
وصدرت الآية بهذا ]الله لا إله إلا هو[أي: لا معبود بحق سواه ، ثم أتبع هذا التصديق بذكر براهينه ، ودلائله فما ذكر في تمام الآية توحيد وبرهان للتوحيد ، توحيد علمي ، وبرهان على التوحيد العملي الذي هو إفراد الله بالعبادة ،الذي هو: التذلل والإنكسار والإنقياد له تبارك وتعالى ]الله لا إله إلا هو[أي: لا معبود بحق سواه .
]الحي القيوم[ هذان اسمان]الحي القيوم[وبعض المحققين من أهل العلم يرون هذبن الإسمين هما الإسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ، وبعضهم يرون أن الإسم الأعظم هو الله .
وفي المسئلة أقوال معروفة لكن أقوى ما قيل في هذه المسئلة أن الإسم الأعظم هو الله ، أو أن الإسم الأعظم الحي القيوم ، ومن أسباب عد أهل العلم أو بعض أهل العلم لهذين الإسمين وأنهما الإسم الأعظم ؛ لأن الأسماء الحسنى والصفات العليا ترجع إليهما ، وتجتمع مدلولاتها في هذين الإسمين ]الحي القيوم[ ، الحي: ترجع إليه الصفات الذاتية ، والقيوم: ترجع إليه الصفات الفعلية ، الحي الذي له الحياة الكاملة التي لم يسبقها فناء ، ولا يلحقها عدم ، ولا يعتريها نقص ، حياة تامة كاملة ، وهي حياة تستلزم كمال صفاته سبحانه وتعالى ، حي حياة كاملة والقيوم : إليه ترجع صفات الأفعال ، القيوم هو القائم بنفسه سبحانه وتعالى ، المقيم لخلقه ، وهذا يدلنا على كمال غناه سبحانه وتعالى ، قائم بنفسه في غنى عن خلقه ]يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد[ ، وفي الحديث (( إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني )) فهو قيوم: أي قائم بنفسه غني عن خلقه سبحانه وتعالى ، فالقيوم هو القائم بنفسه ، وهذا فيه دلالة على كمال الغنى وأنه سبحانه غني عن الخلق في كامل الغنى عنهم، غنى ذاتي لا يحتاج إليهم في شيء ، غني عنهم من كل وجه ، وهم فقراء إليه من كل وجه ، محتاجون إليه في كل شيء لا يستغنون عنه طرفة عين ، جميع المخلوقات فقيرة إلى الله ، السماوات والعرش والجبال والأشجار والناس كلها فقيرة إلى الله ]أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم[ قال تعالى ]إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده[ والآيات في هذا المعنى كثيرة ، فالمخلوقات كلها فقيرة إلى الله سبحانه وتعالى، وهو المقيم لها ،وهو القائم على كل نفس ، وهو المتصرف في جميع المخلوقات المدبر للكائنات سبحانه وتعالى ، وعليه فاسمه القيوم : يدل على كمال غناه وكمال القدرة وكمال الغنى ؛ لأنه قائم بنفسه لكمال غناه ، ويدل على كمال القدرة ؛ لأن القيوم أي: المقيم لخلقه فكل المخلوقات قيامها بقدرة الله سبحانه وتعالى ، ولهذا اسم الله القيوم يدل على كمال الغنى وكمال القدرة ، وإذا عرفنا أن اسم الله القيوم دال على كمال قدرته ، فإن جميع صفات الأفعال راجعة إلى هذا الإسم- الخلق والرزق والإحياء والإماتة والتدبير إلى غير ذلك- كلها راجعة إلى هذا الإسم القيوم ؛ لأن من دلالته أنه المقيم لخلقه خلقاً ورزقاً وإحياءاً وإماتة و تدبيراً إلى غير ذلك فكله راجع إلى هذا الإسم ، وبه نعلم أن الصفات الذاتية ترجع إلى اسمه الحي ،وأن الصفات الفعلية راجعة لاسمه القيوم ، ولعظم شأن هذين الاسمين ذُكرا في أول الدلائل دلائل التوحيد في هذه الآية المباركة ]الله لا إله إلا هو[ أي : لا معبود بحق سواه ، ثم ذكرت الدلائل أولها الحي القيوم فمن هذا شأنه حي قيوم يدعى وحده ، ويعبد وحده ، وتصرف له العبادة وحده ، وسيأتي معنا لاحقا قول الله تعالى ]وتوكل على الحي الذي لا يموت[ فالحي الذي لا يموت هو: الذي تصرف له العبادة ، أما الذي ليس بحي أو الحي الذي يموت لا تصرف له العبادة، العبادة لا تصرف إلا للحي الذي لا يموت وهو الله ]فكل شيء هالك إلا وجهه[فالحي الذي لا يموت هو الذي يلتجأ إليه ، أما الميت أو الحي الذي يموت ، أو الجماد الذي لا حياة له أصلاً فكل هؤلاء لا تصرف لهم العبادة، العبادة لا تصرف إلا للحي القيوم للحي الذي لا يموت سبحانه وتعالى ، إذن العلم بها و أنه سبحانه وتعالى الحي القيوم والعناية بفهم هذا الأمر برهان واضح ، ودليل بيِّن على أن الله وحده المستحق للعبادة دون من سواه ، وكل من سواه عبادته باطلة سواءا كان جماداً ليس له حياة أصلاً ، أو حي قد مات ، أوحي يموت ، كل هؤلاء لا يستحق من العبادة شيء لا يستحق العبادة إلا الله الحي الذي لا يموت]كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام[ فوحده الذي تصرف له العبادة ، إذن هذا برهان عظيم جداً من براهين التوحيد ؛ ولهذا صدرت به الآية، ومن سواه هل يستحق أن يعبد ؟؟ لماذا؟
على ضوء هذا البرهان لأنه إما جماداً لا حياة فيه أصلاً ، أو حي قد مات ، أو حي سيموت فإذن لا يستحق العبادة إلا الحي الذي لا يموت الذي له الحياة الكاملة التي لم تسبق بفناء ، ولا يلحقها عدم ، ولا يعتريها نقص وهذه ليست إلا حياة الله سبحانه وتعالى ، أما حياة من سواه فهي حياة مسبوقة بفناء وعدم ]هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا[ ويلحقها الموت ]كل من عليها فان[ ويعتريها النقص والعجز والوهن والمرض و النوم والسنة إلى آخره ، هذه حياة الإنسان ، إذن العبادة حق للحي القيوم ، والإيمان بأنه سبحانه وتعالى حي قيوم برهان عظيم ، ودليل عظيم على أن الله سبحانه وتعالى وحده المستحق للعبادة دون من سواه.]الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم [وهذا أيضا برهان آخر ،وتأكيد أيضاً لقيوميته سبحانه وتعالى ، برهان آخر على أنه سبحانه وتعالى المستحق للعبادة ، فهو حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم .
والسنة: هي بدايات النوم ، الذي هو النعاس الخفيف . والنوم معروف ، الله سبحانه وتعالى لا تأخذه سنة، أي: النعاس الخفيف ، ولا يأخذه النوم ، وهذا من البراهين أن الله سبحانه هو المستحق للعبادة ، وأما الإنسان وغيره من المخلوقات فشأنه آخر حي ، لكنه ينام ويتعب ، والنوم مبني على التعب والإرهاق ، وهو راحة للبدن من العناء والتعب ، ويحتاج الإنسان للنوم للراحة ؛ ليسكن بدنه ؛ ليذهب عنه العناء والتعب ؛ ولهذا تجد نفسك إذا كنت في غاية التعب ونمت تقوم وقد ذهب عنك تعبك ؛ للراحة التي حصَّلتها في النوم ، فأنت تحتاج للنوم ؛ لأنك تتعب وتنصب هذا دليل ضعفك، الله تبارك وتعالى حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم ، وهذا يدل على كمال قوته سبحانه وتعالى .
! وهناك قاعدة للعلماء في النفي الذي يأتي في القرآن ألا وهي : أن النفي ليس نفي صرفاً ،بل هو متضمن ثبوت كمال ضد المنفي ، فهنا نفيت عنه السنة والنوم ؛ لكمال حياته ، ولكمال قيوميته ، ولكمال قوته ، ولكمال قدرته كل هذه من المعاني الثبوتية التي تدل عليها نفي السنة والنوم] لا تأخذه سنة ولا نوم [أي : لكمال قيوميته و قوته و قدرته سبحانه وتعالى فهذا من براهين التوحيد ، ووجوب إفراد الله بالعبادة ، وأنه سبحانه وتعالى لا تأخذه سنة ولا نوم ، وفي الحديث يقول عليه الصلاة والسلام (( إن الله لا ينام ، و لا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل ، حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) تبارك وتعالى ، لا ينام و لا ينبغي أن ينام ، إذ هو وحده الذي يذبح له ، ويدعى ، ويركع له ، وتصرف له أنواع العبادة دون من سواه سبحانه وتعالى ، أما من سواه فشأنه آخر ، ينام وينعس ويتعب ويسقم إلى غير ذلك ..فكيف يعبد من هذا شأنه ؟!وكيف تصرف له العبادة؟؟ إذن هذا من براهين التوحيد العظيمة ، ودلائله المباركة ، برهان آخر على التوحيد]له ما في السماوات وما في الأرض[وهذا من براهين التوحيد العظيمة ، فكل ما في السماوات والأرض ملكاً لله ، فهو المالك سبحانه وتعالى لما في السموات والأرض ، وما سواه لا يملك في السماوات ولا في الأرض ولا مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، كما قال تعالى]قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ومالهم فيهما من شرك[ لا يملك مثقال ذرة استقلالاً ، ولا يملك مثقال ذرة عن مشاركة، لا استقلالاً ولا مشاركة ، وما يملكه الإنسان في هذه الحياة الدنيا هو ملك بتمليك الله له، كما قال الله سبحانه وتعالى: ]قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء[ وما يملكه الإنسان من ممتلكات آيله إلى أحد أمرين :إما أن يفارقها ، وإما أن تفارقه ، إما أن يفارقها هو ، أو هي تفارقه ، وهو إنما يملكها بتمليك الله سبحانه وتعالى له ، ولهذا قد يكون في المساء مالكاً لخيرات عظيمة ويصبح ما عنده شيء ، كما مر علينا في قصة أصحاب الجنة التي طاف عليها طائف من الله فأصبحت كالصريم ، في المساء يملكون حديقة غناء وفي الصباح ما يملكون شيئاً ، فهذا ملك من تمليك الله سبحانه وتعالى ، أما استقلالاً فلا يملك مخلوق ولا مثقال ذرة، إذن من لا يملك شيئاً ولا مثقال ذرة- وهذه صفة كل المخلوقات- أيستحق من العبادة شيء؟؟ لا والله، لا يستحق العبادة إلا الملك العظيم، وهو الخالق الجليل المالك للسماوات والأرض ، وما فيهما ، وجميع الكائنات هو الذي يستحق أن يعبد ، ولهذا من براهين التوحيد ودلائله العظيمة:
= أن الله سبحانه وتعالى له ما في السماوات وما في الأرض ، فهو المالك لما في السماوات والأرض ، السماوات والأرض وما فيهما كل ذلك ملك لله-سبحانه وتعالى- وهو جل وعلا يتصرف في ملكه كيف شاء، ويقضي فيه بما أراد، الملك ملكه والخلق خلقه، والعبيد عبيده ]وله من في السماوات ومن في الأرض[.
]من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه[ وهذا من بيان كمال ملكه سبحانه وتعالى، الملك كله ملك لله سبحانه ، ولا أحد يشفع عنده سبحانه وتعالى إلا بإذنه ؛ لأنه هو الملك ، من الذي يتصرف بملكه أو يفعل شيئاً بملكه بدون إذنه سبحانه وتعالى ، فإذن هذا من بيان كمال ملكه وكمال تدبيره سبحانه وتعالى وأن الأمر له جل وعلا، قال]من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه[ وقوله ]إلا بإذنه[ فيه إثبات الإذن صفة لله سبحانه وتعالى، والإذن نوعان:
1-إذن شرعي. 2- إذن كوني قدري.
إذن شرعي: أي ما شرعه الله سبحانه وتعالى ، وأمر عباده به]قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون[ أذن لكم: أي شرع لكم ذلك ، أوأذن لكم به شرعاً. ويراد بالإذن أيضا في بعض المواضع: الإذن الكوني القدري.
وقوله ]من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه[ أي: من الذي يملك الشفاعة عند الله، أو يتمكن من الشفاعة عند الله إلا إذا أذن الله له بذلك، فلا أحد يملك الشفاعة، بل هي ملك لله، كما قال الله عز وجل]قل لله الشفاعة جميعا[ ولهذا لا أحد يشفع عند الله إلا إذا أذن الله ]ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له[،]وكم من ملك لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى[. ولهذا جاء في حديث الشفاعة الطويل في ذكر المقام المحمود لنبينا عليه الصلاة والسلام الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون قال( فأذهب وأخر ساجدا تحت العرش ويعلمني الله جل وعلا محامد أحمده بها في ذلك الوقت، ثم يقال لي:- وهذا هو الإذن-(( ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع))الله يقول له ذلك، ولهذا فإن في قوله: ]من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه[) فيه إثبات صفة الكلام لله جل وعلا] من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه[ومن الإذن قول الله لنبيه- عليه الصلاة والسلام- يوم القيامة( ارفع رأسك ، وسل تعط ،واشفع تشفع)) هذا كلام يقوله الله سبحانه وتعالى ، وهو إذن للنبي عليه الصلاة والسلام بالشفاعة ، وإذنه له بالشفاعة فيه تكرمة للنبي عليه الصلاة والسلام، وفيه تكرمة للملائكة ، وتكرمة للأنبياء والصالحين، و تشريف لهم بأن يأذن لهم بالشفاعة، وشفاعتهم ليست نائلةكل أحد، وليست طائلة كل إنسان، ولهذا جاء في الحديث أن أبا هريرة سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: (( من أحق الناس بشفاعتك يوم القيامة؟)) وهذا السؤال يدل على فقه ، و أنه ليس كل أحد تطوله هذه الشفاعة، قال : ((من أحق الناس بشفاعتك)) فقال عليه الصلاة والسلام: ((من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه)) وفي الحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام : (( لكل نبي دعوة مستجابة وإني ادخرت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، وإنها نائلة إن شاء الله –هذا الإذن إن شاء الله- من لا يشرك بالله شيئاً)) فقوله: ((إن شاء الله)) هذا الإذن أن يأذن الله تعالى لعبده بالشفاعة ، والإذن هنا الإذن القدري، الإذن الكوني بأن يمكِّنه ، ويأذن له قدراً أن يشفع، فيشفع عند الله سبحانه وتعالى، مثل ما قال الله في الحديث: (( ارفع رأسك ، وسل تعط ، واشفع تشفع)) فبدأ عليه الصلاة والسلام بالشفاعة.
و الشفاعة : هي طلب الخير للغير ، سميت بذلك ؛ لأن دعاء الشافع انضم إلى دعاء المشفوع له فأصبح الدعاءان شفعاً. قال : ]من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه[ وهذا كما هو برهان للتوحيد أيضاً فيه إبطال عقيدة المشركين، وعقيدة المشركين قائمة على صرف حق الله لغير الله، صرف العبادة لغير الله سبحانه وتعالى ، والزعم بأن من صرفوا لهم العبادة شفعاء عند الله، قال تعالى: ]ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله[ وفي الآية الأخرى ]ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى[ أي :شفعاء ، وسطاء بيننا وبين الله، فالآية مبطلة لعقيدة المشركين ، القائمة على صرف العبادة لغير الله –تبارك وتعالى – بحجة أن هؤلاء وسطاء و شفعاء ، فالله يقول: ]من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه[ وكان المشركون فيمن يرجون منهم الشفاعة ويعبدونهم طلباً للزلفى والقربى لله سبحانه وتعالى كانوا يعتقدون فيهم أنهم يمتلكون عند الله شفاعة ابتدئية، يشفعون لمن شاؤوا متى شاؤوا في أي وقت شاؤوا ، يملكون ذلك، ويقيسون الله-سبحانه وتعالى وتقدس- بملوك الأرض ، وتأتيتهم الشفعاء ، وذووا الجاه إليهم ، فتجد الملوك والرؤساء والزعماء أصحاب المكانة في مجتمعهم لهم شأن عندهم ، فإذا توسطوا في شيء وشفعوا في أمر قد لا يملك أن يرد طلبه لجاهه ومكانته عنده ، فقاسوا الله بخلقه ، وجعلوا شأن الله كما هو شأن الملوك في الأرض ، فالله سبحانه وتعالى أبطل ذلك، قال : ]من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه[ فهذه الآية مبطلة للشفاعة الشركية التي يعتقدها المشركون. ولهذا أخذ العلماء من هذه الآية ونظائرها من آيات القرآن أن الشفاعة الواردة ذكرها في القرآن على نوعين: 1- شفاعة منفية. 2- شفاعة مثبتة.
شفاعة منفية : أي جاء نفيها في القرآن.
و شفاعة مثتة: أي جاء إثباتها في القرآن.
الشفاعة المنفية هي: هذه التي عليها المشركون في اتخاذ الأنداد والشركاء والوسائط، ويزعمون أن هذه الوسائط تقربهم عند الله ، وتشفع لهم عند الله ، وتأخذ بأيديهم إلى الجنة ، وتحول بينهم وبين النار، وهذا الذي عليه المشركون درج عليه الصوفية ولاسيما غلاتهم .
ولهذا أحد شيوخ الصوفية يقول مرة لمريديه: ليس بشيخ الذي يحول بينه وبين طلابه قليل من التراب.
يعني: لا تظن أن شيخك إذا دفن ، وحال بينك وبينه قليل من التراب أنه لا يملك لك شيئاً ، بل استمر مرتبطاً به، كن على ارتباط به حتى لو دفن، فليس بشيخ الذي يحول بينه وبين مريديه قليل من التراب.
ويقول الآخر لمريديه: لا عليكم يوم القيامة أبصق على النار فتصبح حشيش أخضر. فهذا امتداد لشرك المشركين، عروقه عند أولئك، وهذا متفرع عنه ، ولهذا نفس بضاعة المشركين ورثها هؤلاء ، وربما يحاول بعضهم أن يلبسها لباساً شرعياً، لبساً للحق بالباطل ، ومزجا للهدى بالضلال، تعالى الله عما يصفون ، وسبحان الله عما يشركون.
و الشفاعة مثبتة أي : أثبتها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم ، وهي ما تحقق فيها شرطان:
إذن الله للشافع ، ورضاه عن المشفوع له.
]من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه[ هذا إذنه للشافع. رضاه عن المشفوع له ]ولا يشفعون إلا لمن ارتضى[ .
وضم إلى هذين الأمرين أمراً ثالثاً مهماً للغاية، ألا وهو أنه سبحانه وتعالى لا يرضى إلا عن أهل التوحيد. ولهذا هذه فصول ثلاثة مهمة في الشفاعة، فصول مهمة عظيمة في الشفاعة:
الفصل الأول : أنه لا شفاعة إلا بإذن الله.
الفصل الثاني: لا شفاعة إلا لمن رضي الله عمله وقوله.
الفصل الثالث: لا يرضى الله سبحانه وتعالى إلا عن أرض التوحيد.
ولهذا قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (( وإنها نائلة إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئاً)) أما من يشرك فلا تنفعه شفاعة الشافعين، قال :]من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه[ كما قدمت هذا من براهين التوحيد العظيمة، ثم انتقل السياق إلى برهان آخر من براهين التوحيد، قال : ]يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم[ يعني: يعلم ماكان وما سيكون، ما بين أيديهم: كل الأمور التي قبل أحاط بها علمه سبحانه وتعالى ، مابين أيديهم من الأمور الآتية ، وما خلفهم من الأمور الماضية، كل ذلك أحاط به علم الله سبحانه وتعالى- علم ما كان ، وعلم ما سيكون، أحاط علمه سبحانه وتعالى بكل شيء، وهذا فيه تقرير إحاطة علم الله سبحانه وتعالى بكل الكائنات، وأنه سبحانه وتعالى أحاط بكل شيء علماً ، وأحصى كل شيء عدداً ، يعلم ما كان وما سيكون ، ويعلم –سبحانه وتعالى- ما لم يكن لو كان كيف يكون، كما قال تعالى]ولو ردوا لعادوا لما نهو عنه[ لو ردوا أهل النار إلى الدنيا ،وهو أمر قد قضى الله سبحانه وتعالى ألا يكون، لما يطلبون من الله سبحانه وتعالى أن يعيدهم إلى الدنيا مرة ثانية ؛ ليعملوا صالحاً غير الذي كانوا يعملونه، يكون الجواب بالمنع، ]والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور، وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر[
وفي الآية الأخرى قال: ]اخسئوا فيها ولا تكلمون[ امكثوا فيها ، أي: أبد الآباد ، قضى الله سبحانه وتعالى ألا يخرجون منها ، وألا يعيدهم للحياة الدنيا مرة ثانية ]ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه[ هذا دليل على أنه سبحانه وتعالى يعلم مالم يكن لو كان كيف يكون، فهو –سبحانه وتعالى- أحاط بكل الكائنات علماً ، وأحصى كل شيء عدداً ، وسع علمه كل شيء ، هذا من براهين التوحيد. من براهين التوحيد ودلائله العظيمة إيمان العبد بأن الله أحاط بكل شيء علماً ، ولهذا قال الله عز وجل في الآية الأخرى: ]ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير[ أي : أن خلقه لهذه الكائنات ، وإيجاده لها من العدم دليل على إحاطة علمه بها، وأنه أحاط بكل شيء علماً ، هذا من براهين التوحيد. !أذكر هنا قصة مفيدة ذكرها التيمي في كتابه الحجة (كتاب الحجة ) وهو كتاب عظيم جداً ، وسفر مبارك ، فيه رقائق وفوائد ونفائس قد لا تجدها في غيره ، وقفت فيه على قصة لم أر أحداً ذكرها غيره ، قصة أحد الزنادقة جاء يوماً أمام بعض الطلاب وأراد أن يلبس عليهم ، قال لهم أنني أستطيع أن أخلق كائنات حية ، ليس الذي تفرد بخلق الكائنات الحية الله وحده، أنا أستطيع أن أخلق، فجاء لهم بزجاجة، وضع فيها أشياء متعفنة ، مثل : لحم وخضروات ، و وضعها في زجاجة ، وأغلق عليها ووضعها في مكان ، بعد أيام لما رجعوا إليها وجدوها ممتلئة دود، والدود يخرج منها ، ويتساقط وامتلئت به ، فقال : انظروا ، هذه مخلوقات لي ، أنا الذي خلقها، أوجدتها من العدم، كيف تقولون أنه لا يخلق إلا الله ؟ وكان في المجلس شاب صغير، هو أصغر من في المجلس ، قال كلمة عجيبة مستفادة من قوله ]ألا يعلم من خلق[ قال : لم يكن أحد يخلق إلا ويعلم عدد ما خلق ، ذكورهم من إناثهم ، وأرزاقهم وآجالهم، فأَبِن لنا ذلك كله، فالآن أنت الخالق لهذه الأشياء ؟؟؟؟ كم عدد مخلوقاتك؟ كم من الذكور من الإناث؟ ما هي الأرزاق التي كل مخلوق من هذه المخلوقات سيقتاته مدة حياته؟ وما هي الآجال؟ كل واحد من هذه الكائنات متى سيموت؟ فبهت الذي كفر. أذكر أنني سافرت إلى أحد الجمهوريات الإسلامية، التقيت ببعض الطلبة، وبمناسبة درس من الدروس ذكرت هذه القصة، فجائني أحدهم مندهشاً قال: سبحان الله! كيف غفلنا على هذه الحجة؟! يقول كان الشيوعيون يقولون هذا الكلام، ففي الفصول الدراسية يأتي الأستاذ في المراحل الإبتدائية بزجاج ويضع كذا ويفعل كذا، فيرتبك ا لطلاب، ويحصل لهم تشويش عظيم، يقول: وأنا ممن فعل أمامي هذا الأمر يقول :و ما انتبهت لهذا الجواب، وأخذ يفخم هذا الجواب ويعظم من شأنه ، لأنه يعيش قصة مرت به ومرت بإخوانه المسلمين في تلك المناطق.
قال: ]يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم[ هذا فيه إحاطة علمه –سبحانه تعالى- بكل شيء ثم أمر آخر ]ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء[ هذا فيه ذكر عجز المخلوقات، وقصور علمها ،وأنهم لم يؤتوا من العلم إلا القليل، وما عندهم من العلم إنما نالوه بتعليم الله لهم، ولهذا يقول الله]لا علم لنا إلا ما علمتنا[ وفي الدعاء: (( اللهم علمني ما ينفعني)) ((اللهم إني أسألك علما نافعاً)) ]الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم[ فلا ينال الإنسان أي حظ من العلم إلا إذا وفقه الله سبحانه وتعالى ويسره له]ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء[ أي: ينالون شيئاً من العلوم إلا أشياء قليلة بإذنه ومشيئته سبحانه ، وهذا فيه إثبات المشيئة لله سبحانه وتعالى- صفة من صفاته العظيمة، وأن الأمور كلها بمشيئة الله ، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وفيه أيضاً ضعف المخلوق وقصوره وضعفه وعجزه وقلة معلوماته ، وأنه لم يؤت من العلم إلا القليل، وأن ما عنده من العلم إنما هو بتعليم الله –سبحانه وتعالى-له، وما عنده من العلم مسبوق بجهل]والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً[ وآيل إلى الانتهاء ]ثم يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً[ وأيضاً يعتريه النسيان]ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي[ نسي آدم ونسيت ذريته ، هذا علم الإنسان ، علم مسبوق بجهل، وآيل إلى الانتهاء ، ويلحقه النقص والنسيان ، وهو مع ذلك كله علم قليل ]وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً[ هذا في ضعف الإنسان وفقره واحتياجه إلى الله سبحانه وتعالى ، وإذا بان ذلك فإن فيه برهان على التوحيد، وإنما المستحق للعبادة إنما هو الله ، الذي أحاط بكل شيء علما ، وأحصى كل شيء عدداً ، وهذا هو الذي سيق هذا الأمر لبيانه وتقريره]يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء[.
ثم ذكر برهانا آخر قال ]وسع كرسيه السموات والأرض[ وهذا ذُكر لبيان عظمة الله –سبحانه وتعالى- وأنه –جل وعلا- العظيم الكبير المتعالي ، وبيان عظمته ببيان عظمة وسعة مخلوق من مخلوقاته ، وهو: الكرسي.
والكرسي هو: مخلوق من المخلوقات أصغر من العرش وسع السماوات والأرض ، والنسبة بين السماوات والأرض و الكرسي كالنسبة بين الكرسي والعرش وفي الحديث : ( (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة أُلقيت في فلاة)) والذي بين السماوات والأرض وبين الكرسي مثل ذلك ، وكما جاء في الحديث عن النبي r حلقة من حديد مرميّة في صحراء ، ماذا تساوي هذه الحلقة من الصحراء عند المقارنة ؟ فالكرسي نسبته إلى العرش كنسبة الحديد إلى الفلاة التي هي الصحراء ، السماوات والأرض نسبتها الكرسي مثل ذلك ، فإذا تفكرت الأرض التي تمشي عليها أنت ، ماذا تكون نسبتها بالنسبة إلى الأرض كلها؟ بالنسبة للأراضين كلها ؟ بالنسبة للسموات ؟ بالنسبة للكرسي الذي وسع السماوات ؟ بالنسبة للعرش العظيم الذي استوى عليه الرب جل وعلا ]الرحمن على العرش استوى[ ؟ ولهذا هذا التفكر يهديك لمعرفة عظمة الخالق ، وأنه سبحانه وتعالى الكبير المتعال العليّ العظيم ، ولهذا قال بعض أهل العلم :"ذكر الكرسي هنا في هذا المقام جاء كالتوطئة والتمهيد لبيان علوّه وعظمته ، الذي خُتمت به الآية" ، ختُمت الآية بقوله : ]وهو العلي العظيم[ فتمهيداً لتقرير ذلك ذكر الكرسي . تفكّر في الكرسي ، الكرسي يدلك على عظمة الخالق ، وأنه سبحانه وتعالى عليٌّ عظيم كبير متعالٍ . فالكرسي وهو مخلوق من مخلوقات الله سبحانه وتعالى ، وسع السماوات والأرض ،وهو مخلوق من مخلوقات الله ، والكرسي ليس هو العرش ، ومن قال ذلك أخطأ ، والنصوص دالة على خطأ هذا القول ، ليس هو العرش ، بل هو مخلوق آخر وسع السماوات والأرض ، والعرش أعظم منه . ولهذا جاء عن ابن عباس في تفسير الآية بإسناد صحيح : ( وسع السماوات والأرض قال : الكرسي : موضع القدمين ، والعرش لا يقدر قدره إلا الله )). العرش مخلوق آخر أعظم وأكبر لا يقدر قدره إلا الله ولهذا وصف العرش بأنه مجيد ، ]ذو العرش المجيد[ في قراءة الكسر ، صفة للعرش ، والمجد : هو السعة ، وُصف بالمجيد لسعته ، ووُصف بأنه عظيم لعظمته ، فالعرش أعظم من الكرسي ، قال ابن عباس –رضي الله عنهما – وجاء أيضا عن غيره من الصحابة هذا المعنى : " الكرسي موضع القدمين ، والعرش لا يقدر قدره إلا الله ""، لا يقدر قدره : أي لا يعرف عظمته إلا الله سبحانه وتعالى .
فالقول بأن الكرسي هو العرش هذا قول خاطيء مجانبٌ للصواب ، مخالف للأدلة ، والأدلة دلت على أن العرش غير الكرسي ، مثل ما جاء عن ابن عباس ، ومثل ما جاء عن النبي r من حديث أبي ذر : " ما الكرسي في العرش إلا كحلقة أُلقيت في فلاة " ، فهذا مخلوق ، وهذا مخلوق ، والكرسي كحلقة أٌلقيت في فلاة ، وأيضاً ليس الكرسي العلم ، قد نسبه بعضهم إلى ابن عباس–رضي الله عنهما – أنه قال : " كرسيه علمه " وهذا لا يصح عن ابن عباس t وإنما المحفوظ عنه أن كرسيه هو موضع القدمين ، وهذا كما قال أهل العلم له حكم الرفع، لأنه عقيدة ، ولا مجال فيه للرأي ، فحكمه حكم المرفوع إلى النبي r.
]وسع كرسيه السماوات والأرض[ هذا فيه عظمة الكرسي . وفي معرفة عظمة الكرسي والتفكر في عظمته ، دلالة على عظمة من خلق الكرسي وأوجده من العدم –تبارك وتعالى- والكرسي هذا المخلوق العظيم الذي وسع السماوات والأرض لا يساوي شيئاً بالنسبة للعرش الذي استوى عليه الرحمن –سبحانه وتعالى -، ونسبته إليه كحلقة أًُلقيت في فلاة كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
-قال : ]وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما[ وهذا أيضاً فيه بيان عظمة الله ، وكمال قدرته وقوته –سبحانه وتعالى - ، قد عرفنا أن النفي في القرآن لا يكون نفياً صرفاً ، وإنما هو نفي متضمن ثبوت كمال ضد المنفي ، فمعنى قوله :]لا يؤوده [ أي: لا يثقله ، ولا يتعبه و لا يكلفه ، ]حفظهما[ : أي السماوات والأرض . وهذا فيه دلالة وإثبات على أن الله سبحانه وتعالى الحفيظ وهو الحافظ ، وأنه يحفظ السماوات ويحفظ الأرض ، ولا يثقله ذلك ، وهذا أيضا فيه كمال قدرته ، كمال قوته ، وأيضا فيه كمال غناه ، وافتقار المخلوقات إليه ، السماوات والأرض والكرسي والعرش كل الكائنات فقيرة إليه ، محتاجة إليه ، فهو الممسك لها بقدرته ، والحافظ لها –سبحانه وتعالى –بإذنه ومشيئته –جل وعلا – وهي فقيرة إليه من كل وجه، وهذا يدلنا على فساد عقول المعطلة ، فساداً عجيبا ً ، عندما يقولون في تقرير إنكار استواء الله على العرش، يقولون :وهذا موجود في كثير من كتبهم يقولون : " لو كان الله مستوِ على العرش حقيقة للزم من ذلك أن يكون محتاجاً إلى العرش "، هذا يدل على فساد عقول هؤلاء ، وأن نظرهم لذات الله سبحانه وتعالى مبني على قياس فاسد لله بخلقه ، لأنهم رأوا أن المخلوقات لا تستوي على شيء إلا عن حاجة ، ]خلق لكم من الفلك والأنعام ما تركبون – لتستوا على ظهوره[ ، الإنسان إذا استوى على الفلك ماذا يحدث له ؟ يغرق بغرقه ، وإذا ركب على الدابة يسقط بسقوطها ؛ لأنه مفتقر إليها ، فهؤلاء قاسوا الله بخلقه –تعالى الله عما يصفون – وبناء على هذا القياس الفاسد عطّلوا استواءه ونفوه ، قالوا: يلزم من استواءه على العرش حقيقة أن يكون محتاجاً إلى العرش ، من أين جاؤوا بهذا اللازم ؟ من قياس الله بخلقه ، ولهذا قال أئمة السلف قديماً ، الإمام أحمد وأبو يوسف و غيرهما : " لا يقاس بخلقه " ، وقياس الله بخلقه هو أساس الفساد الذي وقع فيه المعطلة ونُفاة الصفات ، فالله عز وجل الحافظ للعرش، الحافظ للكرسي، الحافظ للسماوات، الحافظ للأرض، الحافظ لكل المخلوقات، وصدرت الآية ]القيوم[ القائم بنفسه المقيم لخلقه بياناً لكمال قدرته وكمال قوته وكمال غناه سبحانه وتعالى ، وفي القرآن يقول- سبحانه وتعالى]إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا[ السموات والأرض والعرش والكرسي وكل المخلوقات قائمة بإقامة الله لها ، وهو سبحانه الممسك لها ، ولهذا نقول : إن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه حقيقة استواءً يليق بجلاله وكماله ، استناداً للآيات الكثيرة ، والأحاديث العديدة في هذا الباب ، ، وفي الوقت نفسه نقول : إن الله عز وجل غنيٌ عن العرش ، وغني عن الكرسي ، وغني عن المخلوقات ، والاستواء الذي هو عن حاجة هو استواء المخلوق ، أما استواؤه سبحانه وتعالى فهو استواء عن غنى ، فهو ممسك للعرش بقدرته سبحانه وتعالى ، والممسك للكرسي وللسماوات وللأرض القائم على كل المخلوقات.
قال : ]ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم[ ختمت الآية بذكر هذين الاسمين ، و بهما يكمل ذكر خمسة أسماء في السورة : الله ، الحي ، القيوم ، العلي ، العظيم ، خمسة أسماء حسنى لله سبحانه وتعالى .
والقاعدة عند أهل العلم في باب الأسماء : أن كل اسم دالٌ على ثبوت صفة كمال ، فليست أسماؤه جامدة ، فاسم الله دال على الألوهية ، الحي الحياة ، القيوم القيومية ، العليّ العلو ، العظيم العظمة ، فهذه أسماء خمسة ذكرت في هذه الآية وكلها دالة على ثبوت صفات كمال ونعوت جلال لله سبحانه وتعالى ،ولهذا قال أهل العلم: (أن هذه السورة اشتملت على خمسة أسماء حسنى ، ومايزيد على العشرين صفة) ولهذا من المناسب لك كنوع من المذاكرة لهذه الآية العظيمة، والمدارسة لها والتفقه فيها أن تطالع أكثر من كتاب من كتب التفسير للسلف –رحمهم الله- وتجمع الصفات التي دلت عليها هذه الآية ، وهذا بحث مقترح عليكم جميعاً في مدارسة هذه الآية، الصفات التي دلت عليها آية الكرسي، والدلالات ثلاثة، دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام، وإذا أخذت تتفقه في دلالة الالتزام فالصفات التي دلت عليها آية الكرسي لا حصر لها، لكن إذا كان نظرك في دلالة المطابقة ،ودلالة التضمن فالصفات التي فيها تزيد على العشرين، أما إذا نظرت إلى دلالة الالتزام، فمثلاً : الحي ، بدلالة الالتزام يدل على القدرة يدل على البصر ، يدل على السمع، يدل على صفات كثيرة لله-سبحانه وتعالى- بدلالة الالتزام، لأن دلالة الالتزام هي دلالة اللفظ على أمر خارجي معناه.
أما دلالة المطابقة: دلالة اللفظ على
الإثنين 19 فبراير 2024, 11:20 pm من طرف الشادي
» منصة وصفحة مجانية لكل مدرس ومدرب بشبكة اقراء
الثلاثاء 28 سبتمبر 2021, 2:38 pm من طرف sakr75
» صفحتنا على الفيس بوك
الأربعاء 18 أغسطس 2021, 11:38 pm من طرف الشادي
» 3 صور بدقة عالية لمدينة يريم
الإثنين 22 فبراير 2021, 9:30 pm من طرف الشادي
» تراحموا #دثرني #منتدى_شباب_يريم
الثلاثاء 10 نوفمبر 2020, 8:43 pm من طرف الشادي
» الظفائر الفنان علي مجاهد
الثلاثاء 10 نوفمبر 2020, 8:01 pm من طرف الشادي
» يمكنكم زيارة صفحة منتدى شباب يريم على الفيس بوك و التويتر
السبت 21 يوليو 2018, 4:19 am من طرف الشادي
» اغبى خمسه اسئله في العالم بس اتحداكم تجابوها
السبت 21 يوليو 2018, 4:04 am من طرف الشادي
» موقع التواصل الإجتماعي عرب جرامز
السبت 21 يوليو 2018, 3:54 am من طرف الشادي